ناقد بناء
معاون
طاقم الإدارة
معاون
نسوانجي متفاعل
نسوانجي متميز
دكتور نسوانجي
أستاذ نسوانجي
عضو
ناشر قصص
نسوانجي قديم
- إنضم
- 17 ديسمبر 2021
- المشاركات
- 9,480
- مستوى التفاعل
- 3,088
- نقاط
- 21,101
- الجنس
- ذكر
- الدولة
- كندا
- توجه جنسي
- أنجذب للإناث
➤السابقة
1
دروب أُوبال
, كان المطر يهطل بغزارة، الماء الطاهر يغسل كلّ شيء؛ ظهور الخيول الصهباء، وقمم الجبال البيضاء، والصخور الملساء، وشاطئ البحر اللازورديّ القريب، وجذوع الأشجار، وسعف النخيل الأخضر، وأسقف البيوت، وجدران القصور، وأعشاش الطيور، كلّ شيء في مملكة البلاغة أنقى وأزهى تحت زخّات المطر، حتى النفوس ووجوه البشر.
, زمرة من الخيول كانت تركض في تناسق بديع وعلى إيقاع واحد، أصوات حوافرهم وهي تقدح الأرض يتناغم مع ضربات قلوبهم المتلاحقة، كانت قوائمهم تصطف على التوازي بشكل أنيق وهم يتسابقون وقد وحّدوا سرعتهم وكأنّهم نسيج واحد، خفّ المطر شيئًا فشيئًا حتى صار كدمع العين هتونًا رقيقًا، وانبثق قوس المطر يزين صفحة السماء ويصافح خط الأفق من بعيد. صهل فرس منهم فعلت جلجلة رفاقه بأصوات صافية مُسْتَدقة، ثُمّ تقدّمهم فلاحقوه ضبحًا* حتى وصلوا أخيرًا لبستان واسع أخضر مدهام. كانوا عشرة من الخيول العربية الأصيلة لولا تدرّج ألوان أجسادهم وتلك العلامات التي وسموا بها وفرقتهم عن بعضهم البعض لصاروا نسخة واحدة متكررة لا يفرق بينهم البشر بجملة النظر من بعيد، كان كبيرهم كستنائي اللون ذو غرّة بيضاء ملأت جبهته وامتدت على قصبة أنفه، وكان محجلًا* فزادته قوائمه البيضاء الأربعة أناقةً وجمالًا، بينما استقرّت على صدره لطخة بيضاء على شكل نجمة تشبه الوسام. مالوا بأعناقهم يمينًا ويسارًا وهملجوا* في البستان قبل أن يجتمعوا حول زعيمهم. لو كنت خيلًا لأجفلت منهم، ولو كنت من البشر لأجفلت منهم أيضًا! فتلك الأصوات التي تعالت عندما هدأ كريرُ صدورهم لم تكن أصوات خيول أبدًا، بل كانت من أصوات البشر!
, هامش:
, محجلًا: المُحَجَّل من الدَّوابّ هو ما كان البياض فيه في موضع الخلاخيل أو القيود وفوق ذلك
, الضبح: صوت أنفاس الفرس إذا أسرع في العدو وذُكرت في القرآن وهي ليست صهيلا ولا جلجلة.
, الهملجة: هي حسن سير الدابة في سرعة، وهي ما يفعله الفرس عندما يقارب بين خطاه ويمشي في سرعة وبخترة.
, قال زعيمهم وقد اصطفوا أمامه في حالة من الخشوع:
, -فلنستوطن هذا البستان، المكان هادئ وجميل وبعيد عن صخب البشر.
, طالعته فرسٌ فاتنةٌ بعينيها الكحيلتين وأمالت عنقها بلطف وقالت:
, -البستان رائع بالفعل يا "حَيزوم"، وكأنني رأيت هذا المكان من قبل!
, قال وهو يرنو إليها:
, -ربّما مررنا به سابقًا يا "جُمانة"٢ نقطةلكنني لا أذكره!
, صهل الفرس "أبهر" والذي كان يتابع حديثهما باهتمام شديد ثم قال:
, -إذًا فلنبق هنا، وليكن لنا هذا البستان بيتًا ومأوى
, سأل الفرس "أجدل" وهو يقترب منهم:
, -وهل سيتركنا البشر؟ إنهم يلاحقوننا من بستان لآخر، ومن غابة لأخرى منذ شهور، مللنا من الفرار منهم.
, قال زعيمهم"حَيزوم" بجدية شديدة:
, -خُلقنا لهذا، وكرامة الفرس الأصيل ركوبها.
, حمحم فرس أسود بغضب وقال بحنقٍ شديد:
, -ألم نتفق على أن نختَار فُرساننا بأنفسنا؟، وأن نطرح كل من لا يليق بظهورنا أرضًا ولا نلتفت إليه!
, رفع "حيزوم" رأسه قائلًا:
, -نعم٣ نقطةاتفقنا على هذا يا "برق"، فالخيل أعلم بفرسانها، تشعر بهم وبأرواحهم عندما يركبونها، وما زلنا نبحث عنهم، وسنظل نبحث عنهم وإن فرقتنا الحياة.
, دمعت عينا "الجُمانة" واقتربت من زوجها "حَيزوم" وقالت تلومه:
, -لا تذكر الفراق أرجوك!
, انصرفت الخيول عن "حَيزوم" وزوجته "الجمانة"، فقد حمحم بعضهم جوعًا وعطشًا ومضى كلّ منهم يبحث عمّا يسدّ به جوعه، فانفردا تحت شجرة بلوط عظيمة، سكنت إليه فقال يؤنسها:
, -لا تخافي يا جُمانة لن أتركك أبدًا، فروحي أسيرة لديك.
, راقت لها كلماته فطابت نفسها، اقترب منها فمالت برأسها على عنقه، فاجأهما صوت الرعد فارتجف قلبها، انزوت تحت شجرة البلوط وألصقت رأسها بجذعها العتيق، بينما تقدّم "حَيزوم" يراقب صفحة السماء مع رفاقه، هناك شيء غريب يحدث هنا، قوس المطر يزداد اتساعًا، ألوانه تزداد قتامة شيئًا فشيئا ثُمّ هاهي تتوهّج وتشتد وضوحًا، سطع ضوء قوي فاعمى أعينهم للحظات تلاه وميض متراقص وغريب، انبثقت من كلّ الجهات دروب مختلفة، لكل درب منهم بوابة عجيبة تختلف عن الأُخريات!، تختلف في الشكل، تختلف في اللون، وتختلف في ما تخفيه خلفها من عوالم مبهمة لا يدركون كنهها، راودهم شعور جميل وهم يراقبون الدروب بألوانها الخلابة والمحاطة بهالات فضية، وأخرى نارية، إحساسٌ رائع لا يقاوم، بدت وكأنّها تناديهم ليدخلوها، وكأنّها تجذبهم كالمغناطيس وهم لا يملكون المقاومة، قوّة ما تسيطر على عقولهم، ويا لها من قوّة!، صاح "أبهر" بحماس شديد:
, -ما أروعها!
, قال "حيزوم" مسحورًا بجمالها:
, -ما رأيت مثلها من قبل يا "أبهر"!
, ثُمّ صمت هنيهة يرهف السمع وقال:
, - أسمعتم النداء؟
, أجابوه بصوت واحد:
, -سمعناه٢ نقطةسمعناه٢ نقطة
, ثُمّ صهلت الخيول بحماس، الجميع سمع النداء، قال "حيزوم" بنبرة حازمة:
, -فلنكن من اليوم خيولًا لتلك الدروب، خيول "أوبالس"٣ نقطةوسنجيب هذا النداء
, صاح "أبهر" بحماسٍ أكبر:
, -ونعم الرأي سيّدي
, قال "حَيزوم" وقد لمعت عيناه:
, -إذًا فلنتسابق والذي سيعُود من دربه أولًا هو الفائز
, -هناك الكثير من الدروب، سندخلها جميعًا؟
, -لا٣ نقطةيكفي سبعة منّا، ولتبق "البيضاء"، و"الجمانة"، و"الشقراء" هنا بالبستان
, سأله "أبهر":
, -لماذا هنّ بالذات!
, طالعهن "حيزوم" بنظرات تشي بالكثير ثُمّ قال:
, -لابد من بقاء الأمّ، و الزوجة، والابنة هنا، ليكون هذا البستان بيتًا ووطنًا لنا حتى نعود إلى هنا مرّة أخرى!
, ودّع "الجُمانة" بالتفاتة سريعة، وانطلق إلى أحد الدروب وافترق هو ورفاقه، وفور أن دلف كلّ منهم إلى درب من تلك الدروب المختلفة أبرقت السماء وأرعدت فجأة ثُمّ اختفى قوس المطر في الحال، وابتلعتهم الدروب وتلاشت معهم في غمضة عين، بقيت "الجُمانة"* في حيرةٍ شديدة، وبجوارها "البيضاء"* التي كانت ترعاها دومًا كأمٍ حنون، وانضمت إليهما "الشقراء"* تلك الفرس الفاتنة التي شغفها "أبهر" حبًا لكنّه لم يلتفت إليها أبدًا، كان دومًا مشغولًا عنها لكنها لم تتوقف عن حبّه للحظة، بل ويزداد تعلّقها به يومًا بعد يوم. سكنَّ وتلاصقن تحت شجرة البلوط وكأنّ على رؤوسهن الطير، وجلسن ينتظرن عودة الخيول السبعة"حَيزوم"، "أبهر"، "أجدل"، "البحر"، "المسوّم"، "البرق")، وانضمت إليهم "الترياق" الأنثى الوحيدة التي سلكت دربًا من الدروب السبعة والتي كانت تنافسهم دائما بجسارة، كانت تركض بحماس شديد وصدرها يعلو ويهبط ويصدر كريرًا غريبًا، بدت عيناها تبرقان كجمرتين مشتعلتين بينما ابتلعها الدرب الذي دلفته في الحال. مرّ الوقت ثقيلًا ولم يعودوا للبستان٢ نقطةلم ينتهِ هذا السباق! لم يفز أيّ منهم بجائزة! وطال الانتظار.
, هامش:
, (أبهر، أجدل، المسوّم، البرق، الترياق، البيضاء، الشقراء، الجُمانة) كلّها من أسماء الخيول عند العرب في صدر الإسلام
, أما "حَيزوم" فقيل أنه اسم فرس جبريل عليه السلام في غزوة بدر، وأما أول من أطلق اسم "البحر" على الخيل فهو النبي صلى **** عليه وسلّم، والمقصود بالبحر هو كثير الجري الذي لا يصيبه التعب.
,
, ٨ العلامة النجمية
,
,
, أَيجيدور
, وقفت بردائها الفضفاض والأنيق في حفل زفاف شقيقها "أنس" على "مَرام"، تلك الفتاة الرقيقة ذات البسمة الملائكية والتي أخبرهم أنّه التقى بها في مملكة البلاغة! وكانت تلك هي المرّة الأولى التي يردد فيها اسم "مملكة البلاغة" أمامها هي وأمام أمّها المسكينة، والتي أصيبت بصدمة عندما روى لها ابنها "أنس" ما حدث، وبعد أن فاجأها زوجها بما قصّه عن رحلته هو الآخر إلى هناك قبل زواجهما، ومن قبلهما الجدّ في شبابه، أسرار لم تعرفها من قبل تسببت في ارتباك الأسرة لفترة طويلة، وازداد ذهولها من حكايات جدّة "مرام"، و"مرام" نفسها عن تلك المملكة أيضًا. لم تصدّق "حبيبة" في البداية ما أخبروها به، لكنّها وأمام إصرار "أنس"، واجتماعه هو و"مَرام" على نفس التفاصيل، ولأنّها تثق بأبيها وجدّها بدأت شيئًا فشيئًا تتقبل الأمر على مضض، كما بدأت تتعايش مع خوفهم الشديد عليها كلّما رأت كابوسًا أو عندما كانت تتأخر في العودة إلى البيت، فقد كانوا يترقّبون اختفاءها في أيّ لحظة، بل كانوا يحاصرونها! ويراقبون كلّ شاردة وواردة تخصّها، مما أصابها بالضيق والاختناق وخاصّة من هلع أمّها عليها، أمّا والدها و"أنس"، فكانا يُكثران من النصائح والتوجيهات، وكان جدّها يطلب منها زيارته باستمرار وكانت تتهرّب منه، حتى أنّه أعدّ لها حقيبة خاصّة حتى تكون مهيّأة للرحيل في أيّ لحظة، أو الاختطافّ كما كانت تسميه هي بتهكّم، لكنّ هذا لم يمنعها من أن تسألهم من آنٍ لآخرَ عن رحلاتهم، وهم بدورهم لم يبخلوا عليها بوصف كلّ صغيرة وكبيرة مرّوا بها هناك، توقفت لمدة عام عن زيارة جدّها بالفيوم، ثُمّ اضطرت للذهاب عندما مرض مرضًا شديدًا وكان لا بدّ من زيارته ورعايته فزارته مع أسرتها وأقامت هناك لفترة قصيرة، لم تجرؤ خلال تلك الفترة على دخول المكتبة، وفي العام التالي ذهبوا جميعًا لقضاء إجازة العيد مع الجدّ بالفيوم، فدلفت المكتبة مرّة مع أبيها وكانت تتشبث بذراعه طوال الوقت وهما هناك، وأمّا هذا العام فالأمر مختلف، فاليوم هو موعد زفاف شقيقها "أنس"، وبعد أن أصرّ الجدّ على إقامة حفل زفافه ببيته الواسع والأنيق، والذي كان يشبه صالات الفنادق الشهيرة في تصميمه، فقد تم الإعداد للحفل ببيت الجدّ بترحيب من الجميع، وخاصّة أنّ غالب أفراد العائلة يقيمون هناك، وكان "أنس" أكثرهم سعادة بتلك الفكرة، لم تخبرهم "حبيبة" عن هذا الكابوس الذي رأته الليلة الماضية في منامها، فلم يكن الوقت مناسبًا لكي تخيفهم وقد تم بالفعل ترتيب كلّ شيء لإقامة حفل الزفاف ببيت الجدّ، ولأنّها كانت تعلم أن ظروف أخيها المادية لا تسمح بإقامة الحفل في أيّ مكان آخر، وأنّه وبعد خطبة دامت لثلاث سنوات لن يستطيع تأجيل زفافه مرّة أخرى فقد سبق وأجّله مرّتين، وهي تشفق عليه بعد أن عايشت معه ومع أبيها تلك الفترة العصيبة التي كانا يجمعان فيها المال لتهيئة مسكنًا يليق بـ"أنس" وعروسه "مَرام"، فهم رغم مظهرهم الذي يوحي بالثراء يعدّون من الطبقة المتوسّطة الحال، ففضّلت الصمت، وعدَلت عن قرارها بعدم حضور الحفل، والذي همست به لأمّها فقط، عندما لمَّحت لها بخوفها وقلقها من إتمام الزفاف بهذا البيت، فبكت أمّها فور أن علمت بما تفكّر فيه ابنتها، فكيف ستترك شقيقها ليلة زفافه!
, كان القلق ينهش رأس "حبيبة"، وظلّت تقرض شفتيها طوال الوقت، وتتنقل بين ضيوف الحفل بهذا الثوب الواسع الذي ارتدته مرغمة بعد إصرار أمّها، وعانت من بطانته الاسفنجية التي لجأت أمّها لتثبيتها به لينتفش ذيله وتخفي نحافة ابنتها، لجأت لخلع حذائها مرّتين لتريح قدميها، فهي تكره الأحذية ذات الكعوب العالية، لكنّها كانت تُسرع بارتدائه عندما تقترب أمّها منها، وكانت أمّها في كلّ مرّة تراها فيها تقوم بتفحّص ملابسها وحجابها وتضبطه وتؤنبها لأنّها لم تضع القليل من مساحيق التجميل على وجهها كما تفعل الفتيات، شتّان بين ما يدور في رأس أمّها ورأسها الآن، فالأم تحلم بعريس وسيم لابنتها، والابنة تحلم بالهروب من هذا المنزل بأيّ طريقة، والتخلّص من هذا الحذاء.
, كانت دقّات قلب "حبيبة" تتواثب كلّما لاح ضوء المكتبة من بعيد بحديقة بيت جدّها، وكانت الحديقة تعبق برائحة الأطعمة المختلفة، حيث امتدت الموائد العامرة بما لذّ وطاب من أوّلها لآخرها، قررت أن تكسر هذا الخوف الذي يعتصر قلبها وتدخل المكتبة في حضور كلّ هؤلاء الضيوف بالحديقة وعلى بعد خطوات من باب المكتبة، ظنّت أنّها ستأتنس بوجودهم قربها بالخارج، وأنّ وجودهم سيمنع حدوث أيّ أمر غريب، كان جدّها وفور وصولهم مباشرة قد أعطاها مفتاح المكتبة، وكأنّه يدفعها دفعًا لمواجهة الأمر، داست على تلك الهواجس التي تنقر رأسها وأدارت المفتاح في ثقب الباب، كانت الأتربة تغطّي أغلفة الكُتب، اكتفت بنظرة سريعة على المكان، وتنفّست بعمق وهي تحدّث نفسها أنّ هذا الكابوس لا يعني شيئًا، وأنّ الأمور تسير على ما يرام، كانت الغرفة تعبق برائحة الورق العتيق الممتزج برائحة الرّطوبة، وكانت باردة حتى أنّ "حبيبة" أجفلت من هذا البخار الذي كان يخرج من فمها بسبب دفء أنفاسها مقارنة بأجواء الغرفة، وعندما همّت بالخروج وهي سعيدة لأنّها تغلّبت أخيرًا على مخاوفها، انغلق باب المكتبة فجأة فشخصت بعينيها تجاهه، أطبق الصّمت على الغرفة وعُزلت "حبيبة" عن الخارج تمامًا، كانت ركبتاها تصطكّان وتشعر كما لو أنّها تسقط بهوّة سحيقة، اهتزّت جدران المكتبة، حلّقت فوقها الكتب وكأنّ هناك يدًا خفيّة تحرّكها، كانت صفحاتها تتقلّب بسرعة رهيبة، تصاعد صوت صراخ وكأنّ أحدهم يستغيث، كانت الأصوات تردد كلمة واحدة، حاولت أن تهرب لكنّ ساقيها تسمرتا بأرض الغرفة، كانت ترتجف وهي تحدّق في الكتب وهي تدور حولها في دوّامة، توقفت الكتب فجأة وظلّت معلّقة في الهواء للحظات ثم هوت على أرض الغرفة بانتظام في حلقة حولها ودوَّى صوتها بقوّة انخلع لها قلبها، تصاعد الغبار الذي كان متراكمًا على أرض الغرفة فشكّل هالة من الدخان الخفيف حوله، عادت صفحات الكتب تتقلّب بسرعة كطواحين الهواء، انتشرت رائحة غريبة تشبه رائحة الصدأ، ثمّ انغلقت الأغلفة فجأة إلّا كتابًا واحدًا ظلّ مفتوحًا أمامها كانت تهتزّ كورقة شجر تتلاعب بها الرياح في فصل الخريف، احتقنت عيناها وتخشّب لسانها في فمها، رفعت يدها التي كانت ترتجف ووضعتها على صدرها، ثمّ بصعوبة حرّكت قدميها تجاه الكتاب وانحنت تنظر إليه، كانت صورة وجهها تظهر تدريجيًا على الصفحة الأولى وكأنّ هناك شبحًا يرسمها بينما هي تنظر! ازدردت ريقها بصعوبة وحدّقت مرّة أخرى فيها وكأنّها لا تصدق، أغلقت الكتاب لتقرأ عنوانه، كانت هناك كلمة واحدة مكتوبة بخط واضح "أيجيدور"، فزعت عندما رأت الرمز الدّال على الرقم أربعة باللغة النوبية "كيمسو"، كان الرمز يشبه حرف الكاي باللغة الإنجليزية يعلوه خط أفقي٣ نقطة
, ــــــــــ
, K
, حيث أخبرها أبوها أكثر من مرّة أن تنتبه له إن ظهر لها في أيّ وقت أو أيّ مكان، أو حتى في الكوابيس والرؤى التي تراها خلال نومها، كان الرّمز مكتوبًا باللون الأحمر الكرزي على الغلاف من الخلف، بيد أنّ كلّ صفحات الكتاب كانت خالية من الكلام! تماما مثل كتاب "إيكادولي" الذي ظهر لأخيها وكانت صفحاته بيضاء وخالية من الكلمات، تذكّرت ما قصّه لها شقيقها "أنس" عن الأميرة "نَبرة" التي حاولت الكتابة في صفحات كتاب "إيكادولي" بدماء شاب نوبيّ يسمى "كلودة" كان "أنس" قد التقى به أثناء رحلته، وأنقذه من بين يديها وهو ينزف، اقشعر بدنها عندما تخيّلت الأمر، فغطّت وجهها بكفّيها في انزعاج شديد٣ نقطة
, أرادت أن تصرخ لكنّ صوتها لم يخرج من حلقها، حاولت أن تقف على قدميها لكنهما خانتاها، غضنت جبينها وأغمضت عينيها ووقفت مستندة على قبضتي يديها، ألقت نظرة على الكتاب بتحدٍّ وكأنّه عدوٌّ لها، التقطت الكتاب وهرولت نحو غرفتها، قررت تمزيق الكتاب، لكنّها لم تتمكّن أبدًا من تمزيق صفحة واحدة منه! لا بيديها ولا بأسنانها، بحثت عن مقصّ لكنّه لم يعمل ولم يخدش منه ورقة واحدة!، هرولت نحو المدفأة في غرفة المعيشة، وعلى حين غفلة من الحضور ألقت بالكتاب في النار ووقفت تراقبه بعينين متيقظتين، لكنّه بقي كما هو ولم يحترق!، زفرت بحنق، ووقفت تقلّبه في النار لعلّه يحترق، لاحظ جدّها ما تفعله، وكان ثوبها قد استحال لون أطرافه أسود من غبار المكتبة، واحمر وجهها من لهيب النّار، وكان جبينها يتفصّد عرقًا رغم برودة الجوّ فأدرك أنّ حفيدته قد رأت الرّمز! ناداها فالتفتت فزعة ثُمّ هرولت نحو غرفتها وأغلقت الباب، التقط جدّها الكتاب بساق حديدية كان يستخدمها لتقليب الحطب بالمدفأة ولحق بها.
, فتح جدّها الباب فجأة، ورآها تجلس على الأرض، فأسرع نحوها وقال بصوت واهن وهو يقرأ عنوان الكتاب:
, -"أيجيدور"
, حانت منه التفاتة نحوها وسألها:
, -هل رأيت حلمًا غريبًا يا ابنتي؟
, هزّت رأسها في صمت، وقالت بصعوبة:
, -نعم، الليلة الماضية
, كانت تخشّب رقبتها وتحدّق بطرف خفي للكتاب وهو بين يديّ جدها، وكأنّ هناك وحشًا سيخرج من بين دفّاته وينقضّ عليها في لحظة ما، سألها جدّها وهو يُربّت على كتفها:
, -لماذا لم تخبريني؟
, لاحظت نظرات جدّها القلقة فازدردت ريقها بصعوبة وقالت:
, - وسمعت فيه تلك الكلمة التي نطقتها للتوّ يا جدّي!
, -"أيجيدور"؟
, هزّت رأسها موافقة وقالت:
, -كُنت في مكان ما تحت الأرض، ربّما نفقٌ، أو ممرّ، أو زنزانة، لا أدري، سمعت صهيل خيول، وغقغقة صقور، ثُم سمعت نداء غريبًا بأصوات مرتعشة من عدّة أشخاص يمدون إيديهم إليّ والحطام حولهم في كلّ مكان، ورماد الحرائق يغطّي كلّ شيء، وكلّ منهم يصرخ مرددًا: "أيجيدور٣ نقطةأيجيدور"، ثُم رأيت امرأة شديدة الجمال ما رأيت كوجهها من قبل! وكانت تبكي في هلع وهي تتشبث بذراعي وتتألّم، فاستيقظت وصوت صراخها يتلجلج في أذني
, أشفق عليها جدّها وأسندها لتقف وقال وهو يسير معها نحو الطابق العلوي حيث غرفة الأشباح وهو يحمل الكتاب بيده الأخرى:
, -أسرعي يا "حبيبة"، يبدو أنّ هناك من يحتاجك! حان وقت الرّحيل
, قالت برهبة:
, -أرحل! إلى أين؟ هل تعي ما تقوله يا جدّي؟
, -نعم، لا تخافي، فقد رحلت "مرام" من قبل، وهي فتاة مثلك، ستلتقين بـالملكة "الحوراء" هناك
, كانت ترجف وتنتفض فزعًا، ستر الرداء اضطراب جسدها بالكامل واصطكاك ركبتيها وهي تسير بين المدعوين، تعثّرت وتعلّقت بذراع جدّها أكثر من مرّة وهي تصعد الدرج، ظنّ الجميع أنّها هي من تعين جدّها ليسير بينما كان هو من يدعمها ويثبّتها، أشار لابنه "كمال" برأسه وفي عينيه تستقرّ نظرة تشي بالكثير فأدرك "كمال" أن ابنته بها خطب ما، فلحق بهما وصعد الثلاثة للدور العلوي، قال الجدّ لأبيها الذي اغرورقت عيناه بالدموع عندما علم بما حدث، فقد كان يخشى على ابنته:
, -حان الوقت!
, كان "كمال" يعلم أنّ الأمر ليس بيديه، وأنّها إن لم ترحل الآن ستتعرضّ للخطر، ولو تأخّرت في دخولها لغرفة الأشباح ستهاجم أسراب الغربان البيت كما حدث مع "أنس" من قبل عندما تأخّر وهو يتحدّث مع أبيه وجدّه، قال ليخفف عنها:
, -سيكون كلّ شيء على ما يرام، أثق بك يا "حبيبة"، وأعلم أنّك قويّة
, -حتى أنت يا أبي! ظننتك ملاذي الوحيد هنا!
, أشاح بوجهه في ألم وقال وعيناه مغرورقتان بالدموع:
, -تعلمين أن قلبي يتمزّق
, ثُمّ قال بعد تردد وهو يعطيها نفس المفتاح الذي أعطاه من قبل لابنه "أنس":
, -اذهبي يا ابنتي ولا تتخلي عن يقينك ب****
, كان الجدّ يضع حقيبتها في غرفة الأشباح على الدوام، وقف الثلاثة أمام بابها وما زالت لا تُصدّق أنّها في تلك الساعة من الليل ستدخلها! قالت بتصميم:
, -لن أدخلها ولن أرحل من هنا!
, فتح أبوها باب غرفة الأشباح وأضاء المصباح، كانت الغرفة مهيبة، وخالية من الأثاث، رأت الحقيبة على الأرض، قال جدّها وهو يُشير إليها:
, -هذه حقيبتك، فيها الخنجر كما أخبرتك من قبل
, -لن أرحل!
, قال أبوها:
, -الوقت يداهمنا، أنتِ في خطر!
, -لن يحدث شيء، ولن تجبروني على الرحيل
, تركتهما وهرولت نحو غرفتها مرّة أخرى، في ذات اللحظة لاحظ "أنس" اختفاء أخته "حبيبة" فأجفل عندما تناهى إلى سمعه صوت نعيق الغربان الذي بدأ صداه يتردد في الأجواء وهي تحلّق فوق البيت في دوائر فسقط قلبه، وكان يودّع آخر المدعوين أمام باب البيت، فهرول نحو جدّه وسأله عن أخته فأخبره بما حدث، ذهب إلى غرفتها وحاول فتح الباب لكنّها كانت قد أغلقته بالمفتاح وجلست كالصنم على الفراش، دفع الباب بكتفه واقتحم الغرفة مناديًا عليها:
, -"حبيبة"!
, لم تُجبه ولم تلتفت نحوه، أمسكها من ذراعيها وأوقفها ثُمّ احتضنها وهمس في أذنها:
, -أعلم أنّك خائفة يا أختي، لكنّك الآن في خطر
, صاحت بغضب هادر:
, -خطر! الخطر هو ما تدفعونني للذهاب إليه وحدي؟ ألا تخافون عليّ!
, قال وهو يربّت على ظهرها:
, -وأنتِ الآن في حضني من يحميك؟
, قالت بثقة:
, -****
, -وهذا يقيني ويقينك الذي تربينا عليه يا "حبيبة"، لا تنسي أنّك الآن محاربة
, -لست محاربة٢ علامة التعجبولن ألقي بنفسي في النار وأزعم أنني لن أحترق! هذا جنون!
, -ادخلي غرفة الأشباح
, لم تجبه وبقيت على صمتها وعنادها، قال برجاء:
, -ثقي بي
, علا صوت نعيق الغربان، حلّقوا فوق البيت، حطّم الغربان بعض النوافذ، دلفوا المنزل، بدأوا يهاجمون الخدم، وعلا الصراخ والغربان تنقر أجسادهم، أمسكها "أنس" من ذراعها وركضا نحو غرفة الأشباح، وقال بجدية شديدة:
, -أنت الآن تعرضين كل من تحبينهم للخطر، وربّما تفقديننا جميعًا
, قالت غاضبة:
, -لم أعرّض أحدًا للخطر!
, -أنت تفعلين هذا الآن،٣ نقطة"حبيبة"، عندما تبدأ رحلتك سيختفي كلّ شيء هنا، لا تؤذيهم٣ نقطة
, -لا تقل هذا مجددًا، أنا لم أؤذ أحدًا!
, ازداد صراخ الخدم، أشفقت "حبيبة" عليهم وهم يصرخون، واعتصر قلبها عندما تخيّلت أنّ الغربان ستصل لأبيها وأمّها بعد قليل، نظرت لأخيها وكانت حائرة، في تلك اللحظة، كانت "مرام" قد لحقت بهم وصعدت الدرج بفستان زفافها الأبيض، ووقفت أمام الغرفة وقالت لـ"حبيبة" بثبات:
, "حبيبة"٣ نقطةلا تهربي واصطدمي بكلّ قوتك"
, التفتت نحوها وتذكّرت كيف كان "أنس" يروي لها عن "مرام" وكيف أنّ قوتها كمحاربة كانت في ثباتها على الحقّ، وليس في قوّة بدنها، فاستعادت رباطة جأشها، فهاهي فتاة مثلها قد ذهبت وحيدة وعادت على خير حال، قالت أخيرًا بصوت تخنقه العبرات:
, -حسنًا يا "أنس"٢ نقطةاخرج وأغلق الباب في الحال
, ربّت على كتفها وأسرع خارجًا وهي تطالعه بنظرة لم يرها على وجه أخته من قبل فانخلع لها قلبه، وأغلق الباب ووقف يستند برأسه عليه من الخارج وهو يصيح:
, -في أمان **** حبيبتي٢ نقطةفي أمان ****
, سكنت في مكانها للحظات كالصنم ثُمّ حاولت فتح الباب لكنّها فشلت، دارت حول نفسها وكانت تتخبّط في حيرة، أمسكت بحقيبتها، ووقفت تراقب الظلّ الذي كان يقترب من النافذة، اختفت كلّ الأصوات حولها، وعلا صوت خفق جناحين عظيمين، تراجعت "حبيبة" حتى التصق ظهرها بالجدار، ووقفت تراقب ظلّ هذين الجناحين وهو يقترب، كان حجم الظلّ يزداد شيئًا فشيئًا، دارت أنثى الصقر دورة واحدة في سقف الغرفة المرتفع فاهتزّ المصباح وتأرجح، ثُمّ هبطت وطأطأت رأسها وسكنت أمامها على الأرض، وقع في نفس "حبيبة" أنّ تلك هي "قطرة الدّمع" التي حملت "مرام" لمملكة البلاغة من قبل، فوقفت تحملق فيها تحت ضوء المصباح وهو يتأرجح، كانت عيناها تبرقان، لها ظهر أخضر زبرجدي، والجسد أبيض يخرج منه جناحان بديعان مبرقشان، وذيل عريض ومستدير عند نهايته، ذو طرف أخضر قاتم وعلامة بيضاء على أقصاه. ويظهر أعلى رأسها على الجانبين لون زمرّدي بديع يتصاعد قتامة حتى أعلى رأسها وكأنّه تاج!، ويمتد على الوجنتين كخطّ رفيع داكن يتباين بشكل حاد مع جانبيّ العنق الباهتين، بدت مهيبة الطلعة كالملكات.
, ضمّت جناحيها وألصقتهما بجسدها، حدّقت في "حبيبة" بعينيها المخيفتين، ثُمّ غطّست رأسها في جسدها. مرّت لحظات طويلة على "حبيبة" استيقظت فيها كلّ حواسها، كانت ترهف السمع بشدّة وتنتظر أن تبدأها هي بالكلام، وهذا ما حدث بالفعل عندما قالت بصوتها المهيب:
, -أنا "قطرة الدمع" يا "حبيبة"، سنرحل حالًا، فالأمر جدّ خطير، ولا بدّ أن نسرع لنتمكن من لقاء "الحوراء" فقد لا نلتقي بها مرّة أخرى
, -لماذا٣ نقطة
, أرادت "حبيبة" أن تتحدّث معها قليلًا، لكنّ"قطرة الدمع" لم تتركها لتكمل كلماتها، وطارت فجأة بضربة جناح واحدة واستوت على رأسها، فاقشعر بدن "حبيبة" ووقفت منكمشة وهي ترفع عينيها إلى أعلى، كانت "قطرة الدمع" متعجلة وكأنّ هناك من يطاردها، بسطت أنثى الصقر جناحيها في الهواء، ثُمّ احتضنت وجه "حبيبة" بهما ببطء وبهدوءٍ شديد، حيث غطت وجهها كلّه بريش جناحيها ريشة فوق ريشةٍ بانتظام، جبهتها وعينيها وأذنيها وخديها، لم تترك إلا أنفها وفمها لتتمكن من التنفس والكلام. شعرت"حبيبة" بجسدها يخدّر، وسرى في نفسها شعور غريب، شيئًا فشيئًا خفّ جسدها وكأنّها ريشة في جناح الصّقر! حاولت فتح عينيها٢ نقطةكانت تظنّ أن ريش جناح "قطرة الدمع" ما زال يغطيهما، لكنّها فوجئت بنفسها تطير فوق بحر لازوردي واسعٍ وفي وضح النهار!
, كانت البروق تتوالى وتشق صفحة السماء وكأن هناك سيفًا عظيمًا من لجين يضوي، اقتربت "قطرة الدمع" وهي تخفق بجناحيها بينما تحمل "حبيبة" بمخالبها وتحلّق فوق البحر، والتي كانت تقاومها بعصبية شديدة، وتتأرجح في الهواء وتحاول التملص من بين مخالبها، ما زالت تستنكر ما يحدث لها، وما زالت ترفض الأمر، يا لها من فتاةٍ عنيدة!
, رجف قلبها عندما أرعدت السماء، اقتربت سحابة هشّة شاهقة البياض منهما وانبثق ضوء قويّ من بين طيّاتها وترجرج شعاعه وكأنّه يلوّح في السماء، ثُمّ سقط على وجه "حبيبة" فشعرت بخفّة وانشراح، لم تحترق! لم تتبخّر، لم تتلاشَ في الهواء!
, انعكس الضوء من جبهتها على سطح ماء البحر وقد انحدر منه شعاع لطيف ملوّن اختلط بأمواج البحر، حتى الزبد ترقرق وتهادى وكأنه يتراقص فرحًا وطربًا مما أذهل "قطرة الدمع" التي أصدرت صيحة غريبة تردد صداها في الأجواء وقالت برهبة:
, -"أيجيدور"!
, سحب الضوء رداءه الملوّن واختبأ في حضن السماء التي أرعدت فجأة وأبرقت مرّة أخرى فأصيب جناح "قطرة الدمع" بشرارة من شرارات البرق التي ملأت الأجواء، بدأ ريشها يدخّن ويحترق فألقت بـ"حبيبة" في ماء البحر رغمًا عنها ومالت نحو الغابة القريبة من الشاطىء، هوت وسقطت بسرعة شديدة واختفت بين الأشجار.
, غاصت "حبيبة" في ماء البحر واختفت تحت سطحه وأحاطتها الظلمة من كل صوب، كاد ثوبها الثقيل ببطانته الاسفنجية يُغرقها فقد التفّ على جسدها وأعاقها فلم تتمكّن من السباحة، شعرت بدوّامات الماء تدور خلف ظهرها وكأنّ الماء يدفعها دفعًا تجاه سطحه، رفعت رأسها أخيرًا وشهقت ثُمّ بدأت تضرب الماء بذراعيها سابحة نحو الشاطئ، خرجت منه و الماء يقطر من ملابسها وهي تركض حافية القدمين بعد أن فقدت حذاءها عندما سقطت في الماء، سارت بين مجاميع الأشجار الكثيفة بحثًا عن "قطرة الدمع" هنا وهناك، كانت تنادي عليها وهي تسير بصعوبة بين الأحجار، وتكرر النداء كلما توقفت لتلتقط أنفاسها.
, بعينين نابهتين، وبجبهة واثقة، وبرأس متعاليةٍ بكبرياء، وبصدر يرحب بالحياة والموت معًا، حيث الروح محلّقةً في رحاب **** وقفت "حبيبة" بقامتها متوسطة الطول وقوامها المشدود متأهّبة لما هو قادم، علت وجهها غيمة حزن للحظات، بدأت تجول بعينيها اللوزيتين وتمشّط المكان، لها نظرة تشبه نظرات أخيها "أنس"، تذكّرت تحذير جدّها مرارًا لكي لا تُكرر ما فعله شقيقها من قبل، عندما اندفع راكضًا في الغابة ولم ينتظر لقاء "المغاتير"*، ولكنّها أُرغمت على خوض تلك الغابة، وهاهي وحيدة الآن!
, هامش: لقب لمجموعة من الفرسان وهم من شخصيات الجزء الأول، والمغاتير لقب يطلق على نوع من الإبل البيضاء النفيسة جميلة المظهر وغزيرة الوبر، يقول عنها أهل البادية: المغاتير نور القلب.
,
, بدأت تتحسس بيسارها الخنجر وكتاب "أيجيدور" بحقيبتها القماشية المبتلّة، أخبرها جدّها أنّ عنوان الكتاب كلمة نوبية تعني أنقذني، وكانت صيحة "قطرة الدمع" بتلك الكلمة عندما رأت البرق تتردد في أذنيها.
, رفعت كفها الأيمن لتتحسس القلادة وأظهرتها من أسفل حجابها ودارت بعينيها في المكان مرّة أخرى، متأهّبة كانت، تنتظر زعيم "المجاهيم"* ليظهر أمامها فجأة. رفعت رأسها وحدّقت في السماء مرارًا، كانت ترزح تحت موجة من المشاعر المختلطة، خوفٍ، وحذرٍ، وتأهّبٍ، وسخطٍ شديدٍ على هذه الرحلة التي أرغمت على المضي فيها، ورغبة شديدة في البكاء، لكنّها لن تبكي أبدًا٢ نقطةلن تبكي!
, هامش: المجاهيم لقب يطلق على مجموعة من الجنّ وهم من شخصيات الجزء الأوّل، رجل جهم الوجه أي كالح الوجه، ومعنى جهمه جهمًا أي استقبله بوجه كريه، ولقب المجاهيم يطلق على بعض أنواع الإبل النجدية السوداء ، كبيرة الحجم وضخمة العظام، تتحمل الظروف القاسية بكل تضاريسها وتحولاتها المختلفة
,
, في طفولتها لم يكن البكاء خيارها الأول عندما كانت تقع في ورطة ما أو تفقد لعبتها، بل كان الخيار الأخير، والآن وهي في التاسعة عشرة من عمرها فلن يكون البكاء ضمن خياراتها المتعددة، فهي تكره البكاء! وتراه ضعفًا لا يليق بها.
, تذكرت نظرات "أنس" وهو يروي لها ما مرّ به. وتلك التفاصيل الصغيرة التي روتها لها "مرام" عن كل من التقت بهم في مملكة البلاغة، (أشريا، كلودة، الزاجل الأزرق، المغاتير، المجاهيم، كومبو، الحوراء، سامي كول، وحراس المكتبة)*، كانت تحفظ أسماءهم جميعًا وتسترجعها الآن. مرّت لحظات ثقيلة قبل أن ترى طيفًا يقترب، هناك من يشقّ طريقه بين الأشجار٣ نقطة بغُرّتها الناعمة، وعينيها اللامعتين، وظهرها المستقيم وذيلها المرتفع بأناقة، كانت تلك الفرسٌ تهرول نحوها بخفّةٍ ورشاقة، ترفع وتخفض رأسها وكأنّها تحييها!
, هامش:
, أشريا، كلودة، الزاجل الأزرق، المغاتير، الحوراء، حراس المكتبة، وقطرة الدمع من شخصيات الجزء الأول برواية "إيكادولي"
, اندهشت "حبيبة" عندما رأتها تقترب، جمالها الأخّاذ عقد لسانها، رفعت كفّها ببطء وبحرص شديد ووضعتها على رأس الفرس، تخشّب جسدها للحظات،كانت تترقب ردّة فعلها، تعجبّت عندما رأتها تغمض عينيها وتستعذب لمس كفّها لرأسها بلطف! همست بصوت مرتعش:
, -كم أنت جميلة، ما أروع عينيك!
, كانت تلك هي "الترياق" التي سلكت دربًا من تلك الدروب العجيبة تسابق رفاقها الستة، مرّ وقت ليس بالقليل عليها وهي تطوف بالغابات والبساتين بحثًا عن رفاقها لكنّها لم تعثر عليهم، ظلّت "حبيبة" تربّت على رأسها وتتحسس بلطف عنقها الذي كان لونه الأحمر القاني الضارب للسواد رائعًا وخلّابًا، اطمأنّت "الترياق" لها فقالت بصوت عميق له رنّة مميّزة:
, -السلام عليكِ
, قفزت "حبيبة" للخلف في ذعرٍ عندما سمعت صوتها، لكنّها سريعًا ما استعادت رباطة جأشها وطَمْأنت نفسها، فطالما الصقور تتكلّم هنا فما الغريب إن حدّثتها الخيول! ازدردت ريقها بصعوبة وردّت السلام باقتضاب، أحنت "الترياق" رأسها وكأنّها تحاول أن تشعرها بخضوعها لها وقالت:
, -أنتِ غريبة عن تلك البلاد، أليس كذلك؟ فتلك الثياب لا تشبه أيًّا من تلك التي رأيتها خلال جولاتي هنا وهناك.
, حرّكت "حبيبة" ثوبها ببطانته الإسفنجية السخيفة وقالت وهي تعصر طرفه بيديها:
, -نعم أنا غريبة
, -عمّ تبحثين إذًا أيتها الحائرة؟
, -عن "قطرة الدّمع"٣ نقطةهل تعرفينها؟ وهل سمعتِ عن "المغاتير"؟
, -لا٢ نقطةلم أسمع عنهما!
, -هل تعرفين أين قصر "الحوراء"؟
, -لم أسمع عنه أيضًا!
, أدركت "حبيبة" أنّ تلك الفرس لا تعرف أنّها محاربة، عادت تقترب منها ووضعت كفّها على رأسها مرّة أخرى ومررتها خلال غرّتها السوداء فأظهرت الفرس أُنسًا لفعلها مرّة أخرى وقالت:
, -اسمي "الترياق" وأنا من إناث خيول "أوبالس"
, قطّبت "حبيبة" حاجبيها وسألتها:
, -وماذا تعني "أوبالس"؟
, -لا أدري، هكذا أخبرنا زعيمنا "حَيزوم"، فنحن عشرة من الخيول لا نعرف إلّا بعضنا البعض، ولا نذكر ماضينا وقد ضللنا الطريق لفترة طويلة، كنّا نركض من بستان لآخر، نركض وحسب!، ولا نذكر إلّا أسماءنا فقط.
, -غريب أنّ اسمك عربيّ أصيل٣ نقطة "الترياق"!، وكذا اسم زعيمكم "حَيزوم"، أمّا لقبكم هذا الغريب فيبدو لي أنّه ليس بعربيّ أبدًا!٣ نقطةحسنًا أيتها "الترياق" فلنبحث معًا عن صديقتي بالغابة، هي أنثى صقر واسمها "قطرة الدمع" فهل ستساعدينني؟
, أحنت "الترياق رأسها واقتربت لتمكن "حبيبة" من ركوبها، ترددت "حبيبة" للحظات ثُمّ صعدت على ظهرها بحذرٍ شديد عندما تذكّرت أنّها فقدت حذاءها ولن تستطيع السير حافية في الغابة، فمن الجميل أن تستعين بفرس في رحلتها حتى تعثر على حذاء مناسب لها، وقالت بعد أن استوت على ظهر "الترياق":
, -سامحيني فملابسي ما زالت مبتلّة بماء البحر
, حمحمت الفرس وقالت:
, -تمسّكي جيّدًا ولا تقلقي٣ نقطةسأسير ببطء حتى تعتادي على ركوبي
, ومضت "حبيبة" تتجوّل في الغابة تبحث عن "قطرة الدمع" ومعها رفيقة جديدة بدأت تأنس بها، ساقتها إليها درب من دروب عجيبة فُتحت فجأة وظلّت معلّقة في الهواء بعد أن سقط المطر، شيئًا فشيئًا بدأت تعتاد عليها، انحنت "حبيبة" بجذعها للأمام، شعرت "الترياق" بأنفاس الفتاة الدافئة تلامس عنقها فبدأت تسرّع من هملجتها في الغابة، أسرعت٣ نقطةوأسرعت٣ نقطةوأسرعت، حتى شعرت حبيبة أنّها تطير، أصبحتا وكأنّهما كيان واحد يركض ويعدو، صوت حوافر "الترياق" وهي تدقّ الأرض أطرب "حبيبة"، كانت تحلم بالفروسية، كثيرًا ما تمنّت أن تمتطي فرسًا كهذه، كان هذا ضمن أحلام يقظتها، وها هي الآن تمتطي فرسًا جميلة ورشيقة، قطعا معًا مسافات طويلة في تلك الغابة، كان الجوّ باردًا ورطبًا، هدّأت "الترياق" من سرعتها وعادت بـ"حبيبة" للمكان الذي التقيتا فيه أوّل مرّة٢ نقطةلتبدأ الحكاية٣ نقطة
,
, ١٣ العلامة النجمية
,
, "قلعة الدَّيجور"
, نام قرص الشمس على صدر الأفق متدثرًا بزرقة السماء، ما زالت الغيوم عالقة، فاحت رائحة الرطوبة في الهواء، فقد ابتلّت جدران البنايات في حيّنا البسيط بزخّات المطر بعد أن أرخت السماء أجفانها المخضلة بالدموع. في بيت كان عامرًا بأنفاس أمي كنت أجلس ساكنًا على كرسي خشبي هالك متكئًا بمرفقي على سطح المكتب البارد في غرفتي التي أصبحت كمغارة "علي بابا" منذ بدأت كتابة تلك الرواية. نافذة مغلقة وأكوام من الأوراق والكتب والملابس هنا وهناك، كان يزعجني أن تحرّكها أمي عندما أشرع في الكتابة فأصدها وأمنعها حتى تيأس وتتركها على حالها لترضيني، وتخرج بهدوء لتغلق الباب المقيت الذي يفصلني عن حياتها البسيطة التي لا تدور إلا في فلكي، وهأنذا الآن عالق بين السطور لم أحرّك شيئًا من مكانه منذ فترة طويلة. أحاول إنهاء تلك الرواية قبل أن تلحق بسابقاتها، فلم أفلح يومًا في كتابة ختام لرواية! تراكمت الأوراق في درج مكتبي، وعلى الرفوف، وتحت فراشي، لا توجد نهايات للروايات التي أكتبها، ولا أدري ما السبب! أقف دوما عند نقطة ما وينضب فكري فجأة! أصاب بصقيع في رأسي وأعجز عن التفكير وكأنني لم أكتب من قبل، وأفشل في إتمام ما بدأته، كرهت هذا في نفسي كما كرهت نوبة الإحباط الشديدة التي تصيبني في كلّ مرّة. هذه الليلة، عزمت بشدّة على إكمال تلك الرواية، فتلك النهايات المفتوحة تبقى ملتصقة بروحي وجوارحي وأشعر بالثقل والهوان والضعف وكأنني أجرّها خلفي في كل مكان، وكأنّ شخوصها يطاردونني ويلومونني على ما فعلته بهم، مللت من تكرار سؤال الناس لي عن الجديد، وهم يعلمون أنني اعتزلتهم من أجل الكتابة، وها هو العام تلو العام يمر بلا ثمرة ترضي فضولهم. عطستُ عطسةً قويةً آلمتني على إثرها ضلوعي وشعرتُ بقشعريرة فقمت وارتديت معطفًا دخّاني اللون لم يمرّ على الكواء منذ فترة طويلة فوق منامتي الصوفية الزرقاء، وارتديت جوربًا أرجوانيًا قديمًا لأتدفّأ به، كان مثقوبًا لكنني لا أشعر بالدفءِ إلّا إذا ارتديته، أغلقت أزرار المعطف وعدت لمقعدي في الحال، بردت قهوتي فرشفت منها رشفةً ورحت أتلذذ بنكهتها على طرف لساني،كنت أحملق في أوراق دفتري وأقرض أظافر يدي اليسرى وأنتظر اقتناص فكرة ما لأكمل الفصل الأخير من الرواية عندما شعرت بشيء غريب!
, بدأ جسدي يتصلّب وكأنني أصبت بالشلل، خفوت شديد اعتراني وأحسست بدوار شديد ثمّ ثقلت أنفاسي، صرت أشعر وكأن كل شبر من جسدي تحول إلى رمال، ذرّة تلتصق بذرّة وتطبق عليها بقوّة وهناك من يحاول سحب هذه الذرّات، حاولت أن أصرخ لكنني لم أتمكن من تحريك شفتي ولا لساني، أغمضت عيني واستسلمت لهذا الشعور بالانسحاق والتلاشي، ازداد إحساسي بكون أطرافي كتلًا من الرمال، بدأت أشعر أن ذرات تلك الرمال تتطاير شيئًا فشيئًا وتتسرّب من بين أضلعي، وكأنّ روحي ترحل وتغادر جسدي وتصّعّد في السماء، شعرت للحظات بالخفة وكأنني فقاعة تسبح في الهواء، وفجأة داهمني إحساس قوي بالسقوط من مكان مرتفع وبسرعة شديدة ازداد لها خفقان قلبي، بدأ جسدي يؤلمني وكأن هناك من يهرس لحمي ويخمشه بمخالبه تارة ويدكُّها بقبضته تارة أخرى، وتوالت الضربات، ثم عاودني الإحساس بأن جسدي يتكوّن من حبّات رمال وهي الآن تتراكم فوق بعضها البعض، حتى أنني سمعت عَزيف* الرمال وهي تتحرّك، وفجأة! اندفع الهواء متدفقًا إلى صدري بقوّة فشهقت بصوت مسموع قبل أن أفتح عيني لأفاجأ بها أمامي، إنها الجميلة "جلاديولس"* تأمر أحدهم بحزم ولهفة:
, -أحضره إلى هنا في الحال!
, برداء حريري فاخر تنحدر اللآليء السوداء على أكمامه وأطرافه كانت تقف بشموخ وحولها الحراس،كان العقد يتألّق حول عنقها كفرع مرجان يلمع تحت سطح الماء، يعكس على بشرتها خيالات جميلة، وكانت عيناها تبرقان وهي تتفحص ملابسي بإزدراء، ما زلت أرتدي منامتي الصوفية الزرقاء وعليها معطفي البالي، جوربي الأرجواني القديم المثقوب ما زال على قدمي، رطوبة غرفتي ما زالت تلتصق بأنفي، وما زالت مرارة القهوة التي كنت أرشفها قبل أن أنتقل فجأة إلى هذا المكان الغريب على طرف لساني٣ نقطة
, هامش:
, "العَزيف" هو صوت الرّمال إذا هبّت بها الرّياح
, "الجلاديولس" نوع من الزهور يرمز لقوّة الشخصيّة ألوانه متعددة ويعيش لفترة طويلة.
, بملامح جميلة لكنّها صارمه وصوتٍ خالٍ من العاطفة قالت:
, -وأخيرا وصلت، أهلكنا انتظارك!
, قُلتُ بلهجة الذي أفاق من غيبوبة طويلة وكنت أشعر بالذهول:
, -"جلاديولس"! معقول! أأنتِ هي بالفعل؟
, ثُمّ ازدردتُ ريقي بصعوبة وقلت بخفوت:
, -لا بدّ أنني أحلم! أنت أميرة القلعة٣ نقطة"قلعة الدَّيجور"*
, -وما الجديد في هذا!
, قلت هامسًا وكأنني أخشي أن تسمع كلماتي:
, -إنّها٣ نقطةرواية من رواياتي٢ علامة التعجب
, هامش:
, الدَّيجور أي الظلمة، ويُقال ليل ديجور أي ليل مظلم شديد السواد، وجمعها دياجير
, راحت تطالعني بعينيها اليقظتين وقالت:
, -أين كتاب "أيجيدور" أيها المحارب؟
, قُلت متعجبًا:
, - "أيجيدور"٢ علامة التعجب وماذا تعني تلك الكلمة؟ ولم تنادِينني بالمحارب؟
, -لأنّك محارب!
, هززت كتفي وقلت باستنكار:
, -لست محاربًا يا "جلاديولس"
, لكزني أحد الحرّاس في صدري فأوجعني وقال بغلظة:
, - الأميرة "جلاديولس".
, كُنت أحتاج لوقت لكي أستوعب كلّ هذا، لست ببيتي، ولم أفقد وعيي، ويبدو أنّه ليس حلمًا فأنا أتألم من ضربة وجهها لي حارس أحمق! وأنا أقف الآن أمام أكثر شخصيات رواياتي شرًا وحقدًا ونفوذًا٣ نقطةوجمالًا أخّاذًا، لا أدري أين! ولا كيف! هذا شيء عصيّ على الفهم، لكنني بالتأكيد فقدتُ عقلي. عندما جلت بعيني في المكان بتفاصيله الدقيقة أصابتني نوبة هستيرية من الضحك، انخرطت في الضحك ببلاهة! كنت أرتجف وأنا أقهقه كالمجنون، ثُم شعرت بغصّة في حلقي وبدأت أشعر بالرّهبة عندما طالعت وجوه حرّاسها حولها وقد كانوا أيضًا كما وصفتهم في روايتي، وجوه مكفهرة مظلمة، وجماجم ضخمة مثقوبة بعيون قاتمة ضيّقة، يلهثون في جشع كالوحوش والعرق يغمر جبينهم بالكامل، كان المكان مقفرًا ومخيفًا، وكيف لا٣ نقطةوقد غابت الشمس خلف السحب السوداء التي أحاطت بهذا المكان من كلّ صوب، لا شمس، لا نور، لا مطر يغسل الأجواء ويخفف عنهم ما هم فيه من ظلمة، شُعلُ النار التي لا تنطفئ أبدًا هي مصدر الضوء، لا بدّ أن يحترق شيء ما لكي تنير "قلعة الدَّيجور" وما حولها، ولكي يستدلوا على الطريق ويمارسوا حياتهم بطريقة ما٢ نقطة لا بد من٢ نقطةنار٢ نقطةحريق٢ نقطةنهاية٢ نقطةرماد٢ نقطةأو فناء٢ نقطةهؤلاء قوم لا يعرفون النهار!
, قالت "جلاديولس" بعصبية شديدة:
, -فتِّشوه
, اقترب الحراس ففاحت من أجسادهم رائحة الحطب المحترق، قلّبوا ملابسي وخلعوا عني معطفي، وفتشوني بدقّةٍ شديدةٍ ولم يعثروا بالطبع على الكتاب الذي سألتني عنه الأميرة "جلاديولس"، غمغم أحدهم وهو يرشقني بنظرة حاقدة:
, -يبدو أنّه لم يلتقِ بحراس المكتبة بعد يا مولاتي، وربما فقد الكتاب!
, قالت بازدراء وهي تتأمّل شعري المُهمل، وملابسي البسيطة التي كنت أرتديها بالبيت ، وعيني المتعبتين والمحلّقتين بالسواد من السهر على الكتابة طوال الشهر الماضي:
, -تلك السحنة وهذه الملابس لا تليق بمحارب، لا يبدو محاربًا أبدًا٣ نقطة
, ثُم التفتت "جلاديولس" لأحدهم وقد كان يقف خلفي مباشرة فالتفتُ معها في ذات اللحظة فأصابتني قشعريرة عندما رأيت وجهه الذي كان قطعة من الظلام تسبح بين طيّات الثياب، لا ملامح ولا عينين! هذا ليس ببشر!٣ نقطةلا بد أنّه شبح أو ربّما من الجان٢ نقطة
, قالت الأميرة موجهة كلامها إليه:
, -يبدو أنّك فشلت في مهمتك
, قال بصوت أجشّ غاضبٍ وكأنّه نابع من بئر عميق:
, -"المجاهيم" لا يفشلون في مهامهم أبدًا، كانت الصقور تردد اسمه في الأجواء منذ فترة، هذا كاتب وليس بمحارب.
, -وماذا سأفعل بهذا التافه! انظر إلى هيئته وثيابه الرثّة٣ نقطة
, شعرت بالدماء تتصاعد لرأسي، كرهت نظراتها لي ولثيابي، قال المسخ ردًا على كلماتها الأخيرة:
, -له دور في كل شيء يحدث هنا يا صاحبة الجلالة، وسيظهر المحارب ومعه كتاب "أيجيدور" لا ريب، فخطوطهما ستتقاطع هنا وسيكملان مهمة ما تتعلّق بالكتاب، احتَجِزوه لفترة وجيزةٍ وسيبحث المحارب عنه وعندها ستحصلين على الكتاب ستحلّ الأمور بشكل مختلف، ولن يحدث ما تخشين حدوثه، سأرحل الآن فقد وفّيت بوعدي وجاء دورك، لا تنسي وعدك ٣ نقطةلا تنسِي فنحن لا ننسى.
, قال جملته الأخيرة بنبرة لا تخلو من التهديد واختفى في لمح البصر بعد أن تركها وقد جمدت في مكانها للحظة وبدا عليها الخوف، لكنها حرّكت يدها في شعرها وهزّت كتفيها بخيلاء واستدارت ترفل في ثيابها السوداء محاولة إخفاء ما أصابها من هلع. سَبرتُ أغوار عقلي بحثًا عن كلمة "المجاهيم" لكنني لم أتذكر أنني كتبت عنها في رواياتي!، رحت أتخيل راجفًا كينونة هذه المخلوقات،كلّ شيء هنا أعرفه إلا هذا الذي يدّعي أنّه منهم! ولم أذكر أبدًا كتابًا بعنوان "أيجيدور" الذي سألتني عنه الأميرة! كما أنني لست محاربًا بالفعل!
, -ما اسمك؟
, باغتتني بسؤالها وكنت غارقًا في خواطري التي توالت كالبروق المتلاحقة حتى أنني تأرجحت في مكاني للحظة، أجبتها في الحال:
, -"يُوسف"
, قالت بغطرسة وجمود:
, -انقلوه إلى سجن قلعة الدَّيجور ريثما أفكر في أمره.
, قُلتُ بانزعاج شديد:
, -يا إلهي! هل تعين حقًّا مدى سخف ما تتكلمين عنه؟ سجن القلعة! حيث العذاب، والجثث المتفسّخة، ومخالب من حديد يرتديها حرّاس أغبياء في أصابعهم الغليظة و ينهشون لحم من يدخل إليهم بأمر منك٢ علامة التعجب
, التفتت بعصبية ورشقتني بنظرة مفعمة بالاحتقار وقالت:
, -قيّدوه في الحال، واسجنوه حتى نحاكمه .
, تمنيت لو انتهى الأمر هنا واستيقظت من نومي على صفعة من أحدهم ليوقظني من كابوس مزعج، أو بهزّة من يد حانية وهي ترقيني وتمسح على صدري كما كانت تفعل أمي، لكنّهم قيّدوني بالسلاسل وجرّوني خلفهم حيث يحيطنا الظلام من كلّ صوب، وفوق رؤوسنا السماء مدلهمّة يملؤها السحاب الأسود يملّس بعضه على بعض يتكثّف ويتداجي ويختنق، والجنود الغلاظ يحملون شعل النار يهتدون بها بين الأشجار، تتراقص انعكاسات اللهب على أكتافهم العارية، وقد أطلّت نيران "قلعة الدَّيجور" وسط الظلمة الحالكة من بعيد ونحن نسير تجاهها، هنا خفق قلبي بشدّة وخالجني شعور بالحزن٣ نقطة
, أين أنا؟
, وما الذي يحدث لي؟
, لقد ندمت تلك اللحظة أنني كتبت تلك الرواية بكل ما فيها من ظلم وقسوة، تذكرت الأميرة "هيدرانجيا"* وما حدث لها، لا أريد أن أعيش ما ستمرّ به تلك الجميلة، لا أريد أن أراه بعيني، راودني شعور بالذنب كاد يقتلني، شعرت بالوحدة وسرت معهم مشتت الفكر ثائر الوجدان أسيرًا لشخوص رواية مقيتة فشلت في أن أدوّن لها نهاية، ويبدو أن نهايتي ستكون على أيديهم هنا! ازددت غوصًا في تلك البيئة، وحياةً في هذا الحلم الغريب.
,
, هامش:
, "الهيدرانجيا" نوع من الزهور معناها القلب المخلص وهو من الزهور الأكثر شعبية واشتهر باستخدامه في باقات حفلات الزواج.
, ٥ العلامة النجمية
,
, مُوراي
, بذراعيه مفتولي العضلات وبقميصه الحنطيّ اللون والمفتوح على صدره النحاسي المكشوف كان يراقب أمواج البحر بلونه الرائق في صمت مهيب، السماء اللامتناهية برونقها تهدئ من روعه، كان يتمنطق بحزام عريض ماروني اللون بينما يعبث في أنشوطته ليحكم ربطها على بنطاله الكتّانيّ الفضفاض بعد أن خرج من البحر للتوّ، لا بدّ أن يعود الآن قبل أن يرخي الليل عباءته على المكان. على جبهته عَقد شريطًا بنفس لون حزامه، لا يدري لماذا يصرّ على تلك العصابة بلونها الماروني القاتم، ربّما لأنها بلون ثياب أبيه التي كان يرتديها ذاك النهار الذي خطفوه فيه من حِضنه منذ سنوات. عينان واسعتان انزوى فيهما حزن شديد، بينما انعقد بين حاجبيه غضب جارف، ورغبة حارقة في الانتقام. عندما نُزع من حِضن أبيه كان غلامًا صغيرًا في العاشرة من عمره يوشك على البلوغ، يلعب معه أقرانه من أبناء النوبة، بعد أن نزحوا في مجموعات من قريتهم في جنوب مصر، إثر معاناة قريتهم من ظلم شديد من أحد الأمراء، ورحلوا ليستقرّوا على شاطئ البحر الأحمر، وبدأ آباؤهم يمتهنون الصيد، فنشأوا وقلوبهم معلّقة بماء البحر الرائق، وعيونهم تذوب عشقًا في زرقته البديعة، كان يركض هنا وهناك، نقي السريرة، مشرق العينين على شفتيه استقرّت ابتسامة رائعة، يرى الدنيا جميلة بألوان طيفها السبعة، حتى انتزعوه من غيمة السعادة تلك ليلقوا به في ظلمة تلو ظلمة مع رفاقه، لا يعرف منهم إلا رفيق دربه وصديق طفولته الذي كان يلازمه كظله وقد سُرق معه في ذات اليوم. تمرّد الصغير فور أن اشتدّ عوده عندما بلغ الثالثة عشرة من عمره وهرب من العصابة التي سرقته من أهله، وفرّ منهم وحيدًا بعد أن فشل في إقناع رفيق دربه الذي كان يستأنس به، استقر أخيرًا في قرية "الدحنون"* والتي اشتهرت بكثرة أزهار "خدّ العذراء" الحمراء في بساتينها، وفي الطرقات، وحول البيوت، حتى استحال كلّ انعكاس للضوء هناك أحمر مبهجًا زاهيًا وجميلًا.
, هامش:
, الدحنون : هي شقائق النعمان و هو اسم زهرة بريّة جميلة حمراء ارتبطت بالأدب العربي، قيل إنّها نبتت على قبر النعمان بن المنذر أشهر ملوك الحيرة، عندما داسته الفيلة لما رفض الخضوع لملك الفرس بتسليم نساء العرب له في معركة ذي قار، ولهذا نسبت إليه، في الأردن وفلسطين والشام والعراق يطلقون عليها الدحنون أو الدحنونة أو الحنونة.
, التقى هناك بالعجوز "مِسكة" التي كانت تعيش وحيدة في دارها على أطراف القرية، يعتزلها الناس رغم طيبتها ولا يزورونها إلّا قليلًا مما لفت نظره إليها، سألهم عن السبب فأخبروه أنهم يتشاءمون منها، فقد عثروا عليها في قارب مع مجموعة من النساء نازحين من أرض بعيدة، كنّ جميعًا في قارب واحد، وكانت الناجية الوحيدة من بينهن!، جلست المسكينة بين جثث رفيقاتها ولم تجرؤ على الإلقاء بهن في البحر، ولما لاحت لها قوارب الصيادين استغاثت بهم، تعجّب من نظرتهم القاسية لها فقد رقّ لحالها فأحسن إليها، التمست فيه ابنًا بارًا لها وكان خير الابن وخير الجليس. وعندما بلغ السابعة عشرة من عمره بدأ يعمل لينفق على نفسه وعليها، وكانت تحنو عليه كثيرًا واعتبرته حفيدًا لها. كان "مُوراي"* شابًا قويّ الشكيمة، صعب المراس، شديد الذّكاء يصعب السيطرة عليه، وكانت العجوز تعرف هذا عنه فكانت تتركه يخرج في رحلاته خارج القرية دون أن تسأله عن وجهته ولا متى سيعود، كان يعود في مرّات بغلام أو اثنين، وكثيرًا ما كان يعود بأكثر حتى صاروا يتكدسون في بيت العجوز "مِسكة " التي كانت ترق لهم، بعضهم استطاع "مُوراي" أن يعيده لأهله، وبعضهم لا، شاع في القرية أنّه لصّ ويسرقهم، وفي الحقيقة كان ينتزعهم ممن سرقوهم وينقلهم لبيت العجوز ليرعاهم حتى يبحث عن أهاليهم ويعيدهم إليهم، كان يبقيهم بعيدًا عن عالم السرقة والاستعباد والجوع والقهر حيث كانت تلك العصابات تستغلّهم وتربيهم على هذا، وأحيانا كانوا يبيعونهم بأبخس ثمن٢ نقطة هو يعرف هذا وقد ذاق ألوانًا من العذاب هناك، عاش "مُوراي" صلبًا، غلبت قوّة روحه قوّة جسده، وغلبت قوّة جسده قوّة حزنه، ثابت كالطود رغم ما ألمّ به من مصائب، غلب الحياة بما تميز به عن غيره، قُطعت وشائجه فوصلها بالعجوز وبالصغار ووصلهم ببعضهم البعض، كان يحاول صنع العائلة التي حُرم منها ليستأنس بهم.
, بدأ الجيران يشتكون "مُوراي" لكبار القرية، وتعرّض للكثير من التهديد، خرج ومعه "الحزاورة"*، هكذا كان يطلق عليهم، كانت كلمات أبيه تتردد في أذنه:
, -أتدري يا"مُوراي" أنت الآن مُميّز جدًا، لكنني أخشى عليك من الغدّ
, -لماذا يا أبي؟
, -لأنّك الآن من الحزاورة*
, -ماذا تعني؟
, -لقد اقتربت من البلوغ يا ولدي، ما زلت نقي السريرة، على فطرتك، لا تحمل غلًّا ولا حقدًا لأحد، نفسك التي بين جنبيك تشبه الحليب الأبيض الصافي الذي لم يتعكّر
, -وهل هذا حسن يا أبي؟
, -حتى الآن٣ نقطةنعم
, -فما يقلقك؟
, - شهواتك لم تستيقظ بعد، عندما تبلغ سيبدأ جهاد نفسك، ستصارعها يا "مُوراي"، فتمسّك بنقاء سريرتك ما استطعت يا ولدي، ودعني أزرع فيك ما ستفخر به غدًا، وسأدعم ما رزقك **** به من خصالٍ حميدة٢ نقطةفساعدني أرجوك، واقترب من **** لينزع عنك كل درن يعلق بنفسك، كن صديقي وسأكون صديقًا لك حتى آخر لحظات عمري، لو اجتزت تلك الفترة محتفظًا بنقاء نفسك ولم تتغيّر ستكون شابًا رائعًا، وغدًا ستحصد قمح رجولتك عندما يشتدّ عودك.
, كان الأب يوقّع كلماته بابتسامة، ثم يعانقه بحنان حتى ينصرف "مُوراي" من نفسه، لا ينزع ذراعيه عن عنقه أبدًا حتى ينزعها هو بنفسه٣ نقطةوأين ذاك الحِضن الآن!
, أحب الصغار "مُوراي" واتخذوه أخًا كبيرًا لهم، ذهبوا إلى البستان الذي اشتراه السيّد "بركات" تاجر الأقمشة الثري الذي ظهر في القرية فجأة وكان يبحث عن دار مناسبة تليق به وبابنته ليقيم فيها، كما كان يبحث عن خادم قويّ ومخلص، رحّب بـ "مُوراي" مستأنسًا بوجوده في بستانه الواسع وليقوم بحمايته وخدمة الخيول الثلاثة التي وجدها "بركات" في بستانه تحت شجرة بلوط عتيقة واكتشف أنّهم يتحدّثون بلغة البشر!، رفضوا الرحيل فاستبقاهم وأطعمهم، انتقل "مُوراي" للبستان وخرج من قرية "الدحنون" ومعه ما بقي من الحزاورة ورافقتهم العجوز "مِسكة " وانتقلوا جميعًا إلى البستان، حيث كانت "الجُمانة" تقف تحت الشجرة تحرّك عنقها يمينًا ويسارًا وتصدر صوتًا غريبًا والدموع تسيل من عينيها مما لفت نظر "مُوراي"! فاتجه إليها ودار بينهما حوار لم ينسه أبدًا.
, هامش:
, مُوراي: من الأسماء النوبية وتعني المصارع
, الحزاورة: جمع حَزْوَر وهو الغلام الذي قارب البلوغ، واللفظ ذكر في سنن ابن ماجة:
, "عن جندب بن عبد **** قال كنا مع النبي صلى **** عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا"
, اقترب منها بهدوء، وبدأ يمسح على رأسها بحنان، كانت تلك هي المرّة الأولى التي يقترب فيها من فرس، تبدو رائعة، كانت ملامحه تتراقص بين الفرحة برؤيتها، والانبهار بجمالها، والتعجّب من دموعها، والحماس لامتطائها والركض بين الحقول والبساتين وعلى شاطئ البحر بسرعةٍ شديدة، وضع يده على ظهرها فارتجف جذعها، لكنّها لم تتحرّك، نظر في عينيها ورأى انعكاس صورة وجهه، حملّق في مقلتها وأنصت لكرير صدرها، وقف للحظات مسحورًا بجمالها، ما زالت دموعها تسيل! قال متعجبًا:
, -يا مِسكينة، لماذا تبكين؟
, قالتْ "الجمانة" بخفوت:
, -أُخفف الحمل عن قلبي، فالدموع رحمة
, شهق "مُوراي"، استحال جلده جلد إوزة، ابتعد عنها وازدرد ريقه بصعوبة وقال:
, -أتتحدثين بلغة البشر!
, -نعم، ألم يخبرك صاحب البستان؟
, التفت تجاه "بركات" الذي كان يراقبه من بعيد، هزّ الكهل رأسه ففهم "مُوراي" ما يرمي إليه، قال بصوت مرتعش:
, -لا٢ نقطةلم يخبرني، ولكن كيف؟ هل أنت مسحورة؟
, -لا
, -هل أنتِ من الجنّ؟
, -أنتم معاشر البشر تفسرّون كلّ شيء لا تعرفونه دائمًا بأنّه بسبب الجنّ! لست منهم يا فتى، لست من الجنّ!
, -كيف إذًا تحدثينني بلغة البشر!
, -إرادة **** تُحقق المعجزات!
, ثُمّ اقتربت منه بينما كان "بركات" يشير إليه من بعيد ليستمر في حديثه معها وقالت:
, -لا تخف مني يا٣ نقطةما اسمك؟
, رمقها بذهولٍ للحظات ثُمّ قال:
, -"مُوراي"، وأنتِ؟
, قالت برجاء وكانت تبحث عمّن ينصت إليها ويخفف عنها من البشر:
, -"الجمانة"
, ثُمّ أردفت:
, - أرجوك لا تخف منّي يا "مُوراي"، كن حنونًا كصاحب البستان
, عاد "مواري" ينظر لوجه "بركات" الذي كان يبتسم ويطمئنه يإيماءات مختلفة، قال بعد تردد:
, -حسنًا، أخبريني الآن، لم البكاء يا عزيزتي؟
, -أخبرتُك عن سبب بكائي٢ نقطة أخفف الحمل عن قلبي، طال غياب الحبيب
, -وأين ذهب هذا الحبيب؟
, -رحل فجأة، لا أدري إلى أين، ولا أدري متى سيعود، وأخشى ألّا يعود
, وعادت للبكاء، قال وقد رقّ لحالها:
, -ظننتُ أنّ الخيول قويّة، فلم البكاء؟، أليست الدموع سلاح الضعفاء؟ وراية المستسلمين!
, قالت بخفوت:
, -ربّما أنا ضعيفة، ولكن ليست الدموع دائمًا هكذا، قد تكون أحيانًا منتهى القوّة!
, -كيف؟
, -دموع التائبين منتهى القوّة، لأنّها لله، فهؤلاء الذين قهروا شهواتهم ويبكون نادمين شوقًا لمرضاة ****، أما أنا فدموعي منتهى الضعف، فأنا أذوب حزنًا وشوقًا لمخلوقٍ ضعيف مثلي، فؤادي مذبوح يا "مُوراي".
, أضاءت عيناه وقال بنبرة يشوبها الحنين لوالديه:
, -يقولون إن أغلى دموع هي دموع الأب والأم، وأصدقها دموع المظلومين.
, -ودموع المحبين٢ نقطةأليست غالية؟ أعاني الوجد، والنجوى، والشوق، والشغف يا "مُوراي".
, حرّك كتفيه متعجبًا وقال:
, -وما كلّ هذا؟
, -كلّها من معاني الحبّ، أما تدري عن الحبّ يا فتى؟
, شرد "مُوراي" بعينيه وقال:
, -لم يزر قلبي إلّا حبّ أبي وأمي، لا أعرف ما الوجد الذي تتحدثين عنه!
, رفعت "الجمانة" رأسها وقالت:
, -الوجد هو الحب المشوب بالتعاسة والحزن من كثرة التفكير في المحبوب.
, -وما النجوى؟
, -النجوى أعظم من الوجد، فيها حرقة للفؤاد٣ نقطةويا لها من حرقة!
, لاحت ابتسامة ساخرة على شفتيه وقال:
, -أيّ حبّ هذا الذي يحرق الفؤاد!، لا حاجة لي به، أريد حبًا حلوًا وعذبًا أسافر فيه للمحبوب بقلبي وروحي كما يقولون فأسعد وأهيم بحبيبتي إن وجدتها يومًا ما.
, -ذاك الشوق يا "مُوراي"، يحملك على جناحه بقلبك وعقلك وروحك للمحبوب.
, -حقًا! ظننته الهُيام!، على العموم كلّه حبّ في حبّ٢ نقطةلا تعقّديها أيتها الفرس العجيبة.
, -الهيام؛ وما أدراك ما الهيام! الهُيام نوع من الجنون والذوبان في المحبوب، والهائم ضائع لا يرشده إلّا حبيبه٣ نقطةإنّه مجنون!
, قال ضاحكًا:
, -لا أريد أن أجنّ٢ نقطةسأختار نوعًا واحدًا٣ نقطةيكفيني الشوق، ما رأيك؟
, -ليته باختيارنا٣ نقطةنحن لا نختار، الحبّ يقع على قلوبنا كما يسقط المطر.
, -لكننا نملك أن نغلق الأبواب التي تورده للقلب! ونستظل من هذا المطر المفاجئ!
, -كيف؟
, -نحن البشر نختلف عنكم، أمرنا **** بغضّ البصر والاستعفاف، وتلك هي الحصون التي نتحصّن بها، فليس الذي يرى كمن لا يرى، وليس الذي يُمعن النظر ويتفحّص كمن يصرفه سريعًا،٣ نقطةأخبرني أبي بهذا.
, -وبماذا أخبرك أيضًا؟
, -أن الحبّ ليس مجرّد نظرة واشتهاء! بل هو أعظم.
, ربّت "مُوراي" على رأسها وقال:
, -أعانك **** يا عزيزتي.
, ثُمّ أردف قائلًا:
, -رفقًا بنفسك، يكفيك لونان من هذا الحبّ!
, -وماذا أفعل ولي قلب غرفاته واسعة، أنا أحبّ زوجي بكلّ ألوان الحبّ.
, هزّ كتفيه وقال لها:
, -لكنّ هذا يحزنك، ويؤلمك٢ نقطةودموعك الدليل!
, قالت بنبرة ممزقة حزينة:
, -نعم، يؤلمني٣ نقطة
, -أتعلمين؟ وأنا صغير كان أبي يخبرني أن للحزن أجنحة يطير بها، فكنت أغمض عينيّ وأتخيل الحزن يطير ويحلّق بعيدًا عنّي، أما وقد كبرت، الآن أحرر أحزاني وأنا أتأمّل على شاطئ البحر، اطلقي سراح أحزانك هناك، الأمر بيدك٣ نقطةمن هنا البداية
, وأشار إلى رأسه، فقالت بانكسار:
, -كيف؟٢ نقطةوأنا أشعر بالحزن وكأنّه جدار مصمت عنيد يحيطني من كلّ صوب.
, -وإن كان جدارًا ٣ نقطةفحطّميه، حطّمي هذا الجدار أو تسلّقيه إن شئت واقفزي وانجي بنفسك، واختاري لها أرضًا تليق بها.
, -وماذا لو لم يكن بيدي أن أختار يا "مواري"!
, -ستبقين حزينة يا "جمانة"، على العموم٢ نقطةربّما تحمل الأيام ما يجلّي عنك حزنك.
, -ربّما نعم، وربّما لا. أتدري؛ أحيانًا نظل عالقين بالوطن، نحبّه وإن غادرنا أو غادرناه، نرغب في وصاله وحسب، نحنُّ إليه، ومهما فصلت المسافات بيننا٣ نقطةنشتاقه!
, هزّ "مُوراي" رأسه بثقة وقال:
, -الشوق للأمان، وللسكينة، أنتِ تشتاقين لنفسك التي بين جنبيك وليس للأرض في حدّ ذاتها، تفتّشين عن لحظات الطمأنينة والسعادة والحبّ التي عشتِها في ذلك الوطن.
, -أصبت يا "مُوراي"، لكنني لا أعني الأرض، بل أعني وطني!
, -ماذا تقصدين؟
, -أشتاق إلى زوجي "حيزوم"، زوجي هو وطني يا "مُوراي"!
, ران عليهما صمت لطيف قال بعدها "مُوراي" بعد أن تنهّد بعمق:
, -وأنا أيضًا أشتاق لوطني، أشتاق لحِضن أبي.
, مرّت بهما نسمات الهواء البارد تصافح وجهيهما بدلال وكأنّ حديثهما عن الحبّ راق لها فاقتربت تتنصّت، كلاهما كان ساهمًا يسبَح في رحاب وطنه الغائب عنه، ذاك الوطن الذي يتنفّس، الحِضن الذي على ضيقه يتسع للمحبوب. قطعت "الجمانة" هذا الصمت بعذوبة عندما قالت:
, -هيّا بنا.
, -إلى أين؟
, -سأصحبك في رحلة، ألا تحبّ ركوب الخيل؟
, أشرق وجهه بابتسامة عذبة واسعة، واقترب ليركب "الجُمانة" التي صهلت بعذوبة ثُمّ انطلقت وهي تحمله وهملجت في البستان، اختارت "الجمانة" اليوم فارسها ومنحته شرف ركوبها، كان يشعر أنّه يحلّق في الهواء، خرجا منه واتجها نحو شاطئ البحر فرحبّت أمواجه بهما، ظلّت "الجمانة" تركض، وتركض، وتركض،٤ نقطةوتنثر الرمال هنا وهناك بينما فارسها ينثر ويبعثر ضحكاته في الهواء.
,
, ٤ العلامة النجمية
, "يُوسف"
, كان القيد يؤلمني بينما الموكب يسير أمامي وأحد الحرّاس يجرّني بالسلاسل خلفه، جوربي لم يحم قدميّ من الجراح التي أصابتني من الأشواك المتناثرة وأغصان الأشجار الجافة والأحجار الحادّة الحروف والحصى الصغير المدبب حتى استحال لون خيوطه أحمر من دمائي التي تسيل عليه، كنت أتأوّه وأتألّم كلّما خطوت خطوة وكانوا يلاحقونني بالأسواط، شعرت بالمهانة والذلّ. من بين أغصان الأشجار كانت هناك عينان تبرقان وسط الظلام، شعرت أنّ هناك من يراقبنا ويتبعنا، تارة تظهر العينان بين الأشجار القصيرة، وتارة أراهما فوق شجرة عالية، وتارة تختفيان حتى أنني انشغلت للحظات عن ألم جراحي بمتابعتهما. وصلنا أخيرًا وفُتّحت لنا أبواب القلعة، دلفوا يجرونني وألقوا بي في سرداب نتن الرائحة يمتدّ أسفل القلعة، كنت أعرف الطريق، وكيف لا أعرفه وقد وصفت التفاصيل بدقّة عندما كنت أكتب عن المسكينة "هيدرانجيا" عندما أسروها وألقوها في غياهب الظلمة هناك وعذّبوها. ألقوني على الأرض فتكورت في ركن أتألّم، غبت عن الوعي لفترة لا أعلم قدرها، ولم يوقظني إلّا دلو الماء البارد الذي غمر رأسي فجأة ففتحت عينيّ لأفاجأ بوجوههم القبيحة مرّة أخرى، عطست عطسة آلمني إثرها كل ضلع من أضلعي، يبدو أنني أصبت بالبرد، قال أحدهم بصوت قميء:
, -نمت طويلًا أيها البائس، هيّا٢ نقطة
, -إلى أين؟
, -الملك "كرشاب"* يطلب رؤيتك
, هامش: كرشاب اسم نوبي ومعناه الوجيه
, شعرت بارتباك شديد! "كرشاب"! ما الذي أتى به هنا!، هذه شخصيّة من رواية أخرى! وهو أمير نوبي ذكي ونابه، ما الذي أتى به إلى قلعة الدَّيجور!، صحت وهم يسحبونني وتتوالى ركلاتهم وضرباتهم على ظهري:
, -أين الملك "آسر"؟ والملكة "جلنار"؟
, قهقه الحراس وقال أحدهم:
, -منذ متى صار خادم الإسطبل ملكًا أيها الأحمق!
, قال آخر بتهكم:
, -و"جلنار" التي تغسل الملابس صارت ملكة! يا للعار!
, علت قهقهاتهم وازداد ارتباكي، يبدو أن هناك الكثير من المفاجآت تنتظرني هنا، لم يكن "آسر" خادمًا في روايتي، ولم تكن "جلنار" تغسل الملابس، ولم يكن "كِرشاب" هنا في قلعة الدَّيجور٢ علامة التعجب سألتهم بعد أن هدأت ضحكاتهم:
, -ما العلاقة التي تربط الأمير "كِرشاب" بالأميرة "جلاديولس"؟
, أجابني أحدهم بازدراء:
, -الأمير"كِرشاب" في استضافة الأميرة "جلاديولس"، وقد سمع عنك منها، ويودّ أن يراك الآن في الحال.
, تمتمتُ بخفوت وكنت أخشى من البوح باسمها:
, -وأين "الأميرة "هيدرانجيا"؟
, تلفتوا في تعجّب واستغراب وهزّوا أكتافهم، لم يعرفوها! لم يسمع عنها أحد منهم من قبل، بل وسألوني عن معنى اسمها الغريب كما وصفوه، ابتلعت حيرتي وسرت معهم بين أشجار حديقة القلعة الواسعة التي جفّت أغصانها وتساقطت أوراقها وصارت كخيالات المآتة المخيفة، وكيف لا وقد غاب عنها ضوء الشمس، انمحى الخضار وحلّ السواد محلّه، ما عادت تلك حديقة بل هي مقبرة!
, درنا حول البناء تحيطنا الظلمة من كل صوب، ما زالت قدماي تؤلماني بشدّة، أصبت بجروح جديدة وأنا أسير وبدأت الدماء تسيل من قدمي، فور أن دلفنا إلى قاعة كبيرة وفخمة في صدرها عرش عظيم تجلس عليه الأميرة "جلاديولس" بكبرياء وأضواء النيران المشتعلة والمعلّقة على الجدران تنعكس على وجهها الفاتن، صاح شاب قويّ البنية، طويل القامة، أدركت في الحال أنّه "كِرشاب"، له وجه جريء ذو فكّ عريض، كان يرفل في ثياب أنيقة تنمّ عن ذوق رفيع وقال مندهشًا:
, - انظري لقدميه، دماؤه حمراء لا تشبه دماءنا!
, قالت "جلاديولس" باهتمام:
, - هو بالفعل يختلف عنّا
, -وربّما هو من جنس آخر، أو أصيب بمرض ما تسبب في تغير لون دمائه فقط
, -ذاك المسخ الذي أخبرتك عنه من عشيرة المجاهيم قال لي إنّ هذا كاتب، من هؤلاء الكتّاب الذين سمعنا أخبارهم يتناقلها الناس في مملكة البلاغة، يقولون إن له دورًا فيما يحدث هنا، ما رأيك؟
, اقترب "كرشاب" مني وطالع وجهي بتمعّن وقال:
, -أشعر أنني أعرفه، وكأنني رأيته من قبل!
, قلت هامسًا وقد كان قريبًا مني وأنا أركز في عينيه القريبتين وقد بدونا بنفس الطول:
, -وأنا أعرفك، أعرف كل تفاصيل حياتك، كيف كنت تحبّ والدك، وكيف تألّمت عندما مات بين يديك وأنت صغير، وكيف تكره الوحدة والموت والليل، وكيف عانيت بعد زواج أمك عندما انتقلتم للقصر الجديد، وأعرف عن كرهك للسلطة وللقتل وللظلم.
, بُهت الأمير "كِرشاب" من كلماتي، ارتجفت شفتاه، تراجع للخلف خطوتين ورشقني بنظرة غريبة ثُمّ قال:
, - أعرّاف أنت؟
, -لا ٣ نقطةلكنني كتبتك٢ نقطةأنت شخصيّة من خيالي
, -ماذا!٣ نقطةأنت مجنون!
, ثم ضحك بسخرية و استدار وسار نحو عرش الأميرة "جلاديولس" وقال بتهكم:
, -يقولون إن الكتب حية وتستدعيكم للدفاع عنها
, ثُمّ التفت تجاهي وسألني:
, -أين كتابك الحيّ؟
, طالعتني "جلاديولس" بنظرة سريعة وقالت:
, -ربّما هو محارب وقد فقد كتابه، فلننتظر ونراقب.
, قال "كِرشاب":
, -لكن الكتاب لم يستدعه٤ نقطةبل أنتِ و"المجاهيم"، أنتم تعبثون٢ نقطةوربّما تتسببون في المزيد من المشاكل
, ظهر الضيق على "جلاديولس" فزمجرت ثُمّ أشارت للحراس فجرّني اثنان نحو زنزانتي مرّة أخرى، في طريق عودتنا كنت أشعر بنفس العينين تلاحقاني وسط الظلمة من فوق سور القلعة الذي كنّا نسير بمحاذاته، فور أن اقتربنا من سور القلعة سقط حجر على رأس أحدهما وقفز شاب برشاقة من فوق السور على ظهر الحارس الآخر ثُمّ صارعه قليلًا وطرحه أرضًا وظلّ يلكمه حتى أفقده وعيه بجوار الأوّل وعاد ليحاول فكّ قيودي، أفلح في فك قيد قدميّ وبقي قيد يديّ فركضنا معّا نحو السور، لم أكن أرى شيئًا سوى بياض عينيه، كان هناك فرس يقف بهدوء وكأنّه صنم من حجر، أخبرني الشاب أن أصعد فوقه وساعدني ثُمّ صعد بجواري ورفعني لأقفز من فوق السور، وما أصعب أن تقفز من فوق سورٍ وأنت مقيّد اليدين٢ نقطةسمعته يتحدث لأحدهم قائلًا:
, -عُد الآن إلى الإسطبل وأعدُك أن أعود لأحررك
, تناهى إلى سمعي صوت حمحمة الفرس ثُمّ صوت خطواته تبتعد، قفز الشاب وركض فركضّتُ خلفه وأنا لا أعرفه، أدركت حينها أنّه من كان يتبعنا ويراقبنا من بين الأشجار عندما جرّني الحراس إلى القلعة، أصابتني نوبة من السعال فالتفتَ ينبهني أن أكتمه، عندما ابتعدنا عن القلعة بدأ بصيص من الضوء يطلّ من بعيد، كانت عيناي متعبتين من السواد والظلام الحالك الذي عايشته طوال وقت احتجازي في سجن قلعة الدَّيجور، شيئًا فشيئًا بدأت أرى كلّ شيء بوضوح، كان شابًا فارعًا ، قويّ البنية لا ريب أنّه نوبيّ أصيل، التفت نحوي فلاحظتُ العصابة المارونية اللون التي يربطها على جبينه، أخبرني أننا اقتربنا، سألته بصعوبة من بين أنفاسي المتلاحقة:
, -ما اسمك؟
, -"مُوراي"
, خفق قلبي وصحتُ:
, -يا إلهي! أنت من٣ نقطةمن الحزاورة!
, ألقى عليّ نظرة ثُمّ استردها وقال بمرارة:
, -لم أعد منهم٣ نقطة
, رحتُ أتأمّله، يا له من شاب! جبين متغضّن متألّم، ونظرة راقية يوشيها حُزن غامض، قلتُ له:
, -أنا أعرفك، كم عمرك الآن يا "مُوراي"؟
, -أنا في السابعة عشرة من عمري٣ نقطةلم تسألني!
, قلت مترددًا وقد خشيت ألّا يُصدّقني:
, -كتبت عنك يا صديقي، لكنني لم أتوقع أن أراك وقد مرّ على اختطافك من أبيك سبع سنوات! هناك شيء غريب يحدث هنا!
, رسم على وجهه علامة الخبير وقال:
, -إذًا ما يتردد في القرى صحيح، وأنت كاتبٌ بالفعل، سمعت الأميرة "جلاديولس" تخبر الأمير "كِرشاب" عنك.
, -أكنت هناك؟
, -نعم، أستطيع دخول القلعة والخروج منها من آن لآخر، في الحقيقة وجود حرّاس من النوبة برفقة الأمير "كِرشاب" ساعدني على الدخول والخروج، فأنت تعلم أنّ كل سكان قلعة الدَّيجور ليسوا من أهل النوبة، كما أنّ "أبهر" يساعدني
, تسارعت دقّات قلبي وقلت مذهولًا:
, -"أبهر"! لا٣ نقطةلا تخبرني أنّه حصان يتكلّم بلغة البشر٢ نقطة
, -وكيف عرفت؟
, -إنّه من خيول "الكحيلان" يا "مُوراي"
, -لكنّهم لا يسمون أنفسهم بهذا الاسم، يقولون أنّهم خيول "أوبالس"! هكذا أخبرتني الخيول الأخرى التي التقيت بها بالبستان الذي أعيش فيه
, -"أوبالس"! لماذا هذا بالذّات؟٤ نقطةغير معقول!
, -وما الغير معقول!
, -تلك الخيول عربية أصيلة، ألم تلحظ أسماءهم يا فتى، ألا تعرف معاني تلك الأسماء؟، سأخبرك بقصّتهم بالتفصيل
, استوقفني بيده قائلًا بجديّة:
, -انتظر حتى نصل إلى البستان الذي نعيش فيه، قبل أن ينتبه حراس قلعة الدَّيجور لغيابك
, -حسنًا فلنكمل طريقنا٣ نقطةأسرع وسأتبعك
, وركضنا معًا حتى غمرنا النور وابتعدنا عن تلك الظلمة الكثيفة التي تغطي قلعة الدَّيجور وما حولها، التفتُّ أراقب السّحب السوداء من بعيد، شعرت ببرد شديد فجأة!، وكأننا انتقلنا لفصل آخر من فصول السنة، أكملت سيري وأنا أرتجف وداهمتني نوبة السعال مرّة أخرى وكان صدري يؤلمني، بدأ أنفي يرشح، وآلمني حلقي، وشعرت بإعياء شديد. شردت قليلًا ثُمّ عدت أتأمّل "مُوراي" وهو يسير بجواري، شاب رائع مفعم بالآمال والأحلام، شعرت بعطفةٍ شديدة تجاهه، أعرفه، أعرف هذا الصغير٣ نقطةبل٢ نقطةالشاب! كيف صار شابًا؟ لا أدري!
, كُنت أعرف كيف قهره اللصوص وكيف نزعوه من حِضن أبيه وأوسعوه ضربًا حتى فقد وعيه وحملوه، دمعت عيناي وأنا أكتب عنه، كان يذكر رائحة أبيه ولون ملابسه، حتى رائحة الحبال المالحة على الشاطئ لم ينسها، فقد كان أبوه صيادًا ماهرًا، لم أكتب نهاية لرواية "الحزاورة"، ولا رواية "خيول الكحيلان"، ولا رواية "القلب المخلص" التي كتبتها عن الأمير "كِرشاب" ولا رواية "قلعة الدَّيجور"، وما يذهلني أن الشخوص تتقاطع هنا،كما أن بلوغ "مُوراي" وكونه الآن في السابعة عشر من عمره أربكني!
, توالت الأسئلة على رأسي٤ نقطة
, هل أنا أعيش في عالم رواياتي المبتورة النهايات؟
, أم هذا عالم آخر موازٍ يشبه ما ألّفته من أحداث وما ابتكرته من شخوص؟
, لماذا "آسر" ليس ملكًا بقلعة الدَّيجور؟
, وكيف تغسل جلالة الملكة "جلنار" الملابس؟
, لماذا خيول "الكحيلان" غيّرت اسمها من اسم عربي أصيل إلى خيول "أوبالس"؟
, بل وما الذي أتي بـ "أبهر" لقلعة الدَّيجور أصلا! وأين باقي الخيول؟
, وأين اختفت الأميرة "هيدرانجيا"؟
, وكيف أصبح "مُوراي" شابًا يافعًا والرواية في أصلها عن غلمان صغار على وشك البلوغ سُرقوا من أهاليهم وشردوا في البلاد ومنهم "مُوراي"!
, سرت أتخبط في حيرتي وما زال القيد يحيط بمعصميّ، وصلنا أخيرًا لبستان كثيف الأشجار، ذاك البستان الذي كانت الخيول تستوطنه في روايتي مع فارسها الذي فقد قبيلته كلها في حرب مع قبيلة مجاورة وبقي وحيدًا مع عشرة من الخيول الأصيلة التي كانت لأهله وعشيرته، سار في الصحراء وحيدًا، يائسًا، حزينًا، كان يحدّث نفسه ثُمّ بدأ يحاور الخيول ويتحدّث معها، يحكي عن مجد آبائه وأجداده، ويبكيهم حزنًا وقهرًا، وكانت تنصت إليه، وفوجئ أنّها تفهمه وتردّ عليه بلغة البشر٣ نقطةولكن! أين هذا الفارس الآن؟
, فور أن دخلنا إلى البستان شعرت بسكينة، همست لـ "مُوراي" قائلًا:
, -لماذا ساعدْتني؟
, توقف والتفت إليّ وطالعني بنظرة عميقة تركت أثرًا في نفسي وقال:
, -أنت تعرف مكان أبي٢ نقطةأليس كذلك؟ ألست كاتبًا أو محاربًا؟ يقولون إنّكم تعرفون عنّا الكثير٢ نقطة
, أجبته بلا تفكير:
, - سنجده معًا يا "مُوراي" إن شاء الله٢ نقطةلا تقلق
, غمرت وجهه ابتسامة واسعة فأماطت اللثام عن أسنانه النّاصعة البياض، وضع سبابته على فمه مشيرًا إليّ حتى لا أحدث صوتًا، ثُمّ هرول تجاه بناء بسيط من الطين مسقوف بجريد النّخل ومدعّم بجذوع الأشجار له باب خشبيّ أنيق مصنوع بإتقان، سحب جرابًا مصنوعًا من جلد الماعز برزت منه أدوات حديدية كان معلّقًا على جدار البيت وسار مبتعدًا فتبعته إلى الجهة الأخرى من البستان حيث رأيت كوخين بجوار شجرة بلوط عتيقة ربط بجوارها ثلاثة من الخيول فور أن رأيتهم عرفتهم، إنّهم أيضًا من خيول الكحيلان، "الجُمانة"، و"البيضاء"، و"الشقراء"، ألوانهن وتلك العلامات التي على أجسادهن لا تخفى عليّ أبدًا٢ نقطةأردت الحديث عنهن مع"مُوراي" لكنّه كان مشغولًا بتحضير أدواته ليكسر قيدي، أجلسني وطلب مني أن أضع يديّ على جذع شجرة مقطوعة، وضعتهما أمامه وبدأ يبرد حلقة القيود الحديدية بالمبرد، جلست أراقب عينيه، ذاك الغضب القابع بينهما يؤلمني، وهذا الحزن الذي ينزوي هناك يوجعني، ليتني ما كتبت عنه ما كتبته، القوّة التي بدت على محيّاه وجسده طمأنتني قليلًا، لقد عركته الحياة فصار رجلًا، حلّ قيدي بمهارة فوقفت أتحسس معصميّ وكنت متعبًا للغاية، بدأ يحدثني وكنت أشعر بحرارة تجتاح جسدي، يبدو أنني أصبت بالحمّى، سقطتُ بين يديه بينما كان ينادي على أحدهم، شعرت بدوار شديد، كنت ممددًا على أرض البستان بينما هناك بعض العيون تحملق في وجهي وقد أحاطوا بي من كلّ جهة، يبدو أنّهم "الحزاورة" ومعهم عجوز لطيفة، تقف متدثرة بشال من الصوف مشمشي اللون، كانت كفّها الحانية آخر ما شعرت به على جبيني قبل أن أفقد الوعي تمامًا، من هي تلك العجوز٢ علامة التعجب
, ٥ العلامة النجمية
, بركات٢ علامة اقتباس
, صمت رهيب يلف المكان، وكأن الإنسانية قاطبة قد تبخّرت، ذاب جليد صبرها وبدأت شجاعتها تنكمش، كانت "الترياق" ساكنة تقف بخشوع وتهزّ ذيلها ولا تصدر صوتًا حتى أن الشك قد راود "حبيبة" أنّها كانت تتخيّل أنّها تحدثت إليها منذ قليل، كادت تسألها عن سبب صمتها لولا طيفه الذي لاح من بعيد. مدّت يدها لحقيبتها وتحسست خنجرها وقبضت عليه بشدّة، كانت متحفّزة لذاك الذي يقترب من بعيد،كان كهلًا* يحثّ الخطى مسرعًا، ومستندًا إلى عصاه العجراء بيده اليمنى، بينما يمسّد لحيته بيده الأخرى. سحنة طيبة مريحة طمأنتها قليلًا لكنّها ظلّت تقبض على خنجرها ويدها مدسوسة داخل الحقيبة، حيّاها بلطف وهو يقترب، تحتلّ وجهه ابتسامة مشرقة، استند الكهل إلى عصاه ووقف يلتقط أنفاسه، بدا وكأنه سار لمسافة طويلة، كان نحيلًا وطويلًا، وكان مهيبًا في ثوبه الحنطي اللون والفضفاض، له عينان تكشفان عن نفس قوية، بدأ يرحّب بـ"حبيبة" التي اقتربت منه بحذر وأخبرته أنّها ضلّت الطريق، وتريد الخروج من تلك الغابة، كانت حريصة ألا تخبره عن كتابها، سألته إن كان قد لاحظ سقوط صقر أصابه البرق في جناحة فسقط وسط الأشجار، ابتسم الكهل ابتسامة تشي بأنّه فطن إلى شيء ما وقال وهو يشير للسحب في السماء متجاهلًا سؤالها عن الصقر:
, -ستُمطر مرّة أخرى، لا بدّ أن نسرع يا ابنتي
, هامش:
, الكَهْلُ: هو مَنْ جاوز الشبابَ ولمّا يصل سنَّ الشيخوخة بعد، وهو الذي خطه الشيبُ
,
, وأشار إلى درب طويل تتفرّع منه ممرات عديدة محفوفة بأشجار السنديان يمينًا ويسارًا ففهمت أنّه يدعوها للسير معه، لاحظ أنّها بلا حذاء فأشفق عليها، وطلب منها أن تركب "الترياق"، وأسرع في خطاه فتبعته بعد أن ركبتها، سارا معًا بين الأشجار، سألته "حبيبة" باهتمام:
, -إلى أين؟
, كان الكهل يسير بين الأشجار وبدا أنّه يحفظ الطريق بينها، قال دون أن يلتفت إليها:
, -سنحضر ابنتي "رفيف" ثُمّ نذهب إلى بيتنا
, كان يتلفّت بين فينةٍ وأخرى ويتأمّلها، قال بصوتٍ دافئ:
, -انتبهي يا ابنتي، المملكة هنا كما الحياة، بحر متقلّب، ستلتقين هنا بغرباء سيكتسبون قوتهم من ضعفك إن ضعفتِ، وسيتعملقون متى تقزّمتِ، فكوني دائمًا قويّة أيتها المحاربة.
, أجفلت "حبيبة" عندما سمعته يدعوها بالمحاربة وسألته بفضول:
, -وكيف عرفت أنني محاربة؟
, أجابها بابتسامة خفيفة قائلًا:
, - الكلّ هنا يعرف طريقه، ولا تبدو الحيرة إلا على وجوه المحاربين.
, ثُمّ صمت هنيهة وقال:
, -لم تخبريني عن اسمك
, قالت بابتسامة لطيفة:
, -"حبيبة"
, ثُمّ ربتت على رأس الفرس وقالت:
, -وهذه "الترياق" من خيول٣ نقطة
, قاطعها قائلًا وعلامات القلق تتمشّى في ملامحه:
, -أعرف تلك الخيول٣ نقطةأعرفها جيّدًا يا ابنتي٣ نقطة
, ثُمّ هزّ رأسه واغتصب ابتسامة وقال:
, -وأنا "بركات" والآن أسرعي٣ نقطةفقد تأخّرنا على "رفيف".
, كان كلامه موجزًا دون كلمات مطنبة أو مسهبة، من بعيد كانت "رفيف" تقف على شاطئ البحر تحملق في زُرقته الرائعة، أمواج البحر تتوالى على قدميها تلثمها برفق وتنسحب بنعومة نحو البحر، يا لها من فتاة رقيقة! كانت الفتاة بيضاء وكأنّها اغتسلت في نهر من حليب للتو! بياض وجهها غريب! بدت وكأنّها مسحورة تراقب الأفق بشرود وعلى عينيها استقرت نظرة سكون عميقة، ضربت الرياح بطرف ردائها الفضفاض فبدت دقّة ساقيها، اخترقت أصواتهما **** الصمت الذي كانت تلوذ به فانتفضت ثُمّ استدارت وهي تعدّل وشاحها الخزامي اللون وابتسمت بلطف لـ "حبيبة" التي ترجلت عن الفرس لتسلّم عليها، فأقبلت الفتاة" تحتضنها وكأنّها تعرفها وتألفها منذ زمن، في تلك اللحظة أرخت "حبيبة" يدها وتركت الخنجر في الحقيبة، الآن بدأت تطمئن٣ نقطة سارت بجوارهما وهي تمتطي "الترياق" نحو بيتهما، تذكّرت صيحة "قطرة الدمع" قبل أن تلقي بها في البحر، وكيف كان صوتها يحمل الكثير من الفزع فالتفتت تجاه الكهل، وسألته:
, -هل من الممكن أن أسألك سؤالًا قد يبدو غريبًا؟
, -تفضّلي
, -هل التقيت بأحدٍ من أهل النوبة في طريقك إلى هنا؟
, -بالتأكيد، ستلتقين ببعضهم قريبًا حيث أسكن مع ابنتي ومعهم
, -من أين أنت؟
, زمّ عينيه وقال:
, -من بلاد بعيدة، وأتيت للتجارة، وسأعود لوطني يومًا ما
, شردت "حبيبة" قليلًا وأخذت تفكّر في صياح "قطرة الدمع" وما حدث لها، بدأ حماسها يشتعل لإتمام مهمتها الغامضة وآنست برفقتهم، "بركات"، وابنته "رفيف"، وتلك الفرس الرائعة٣ نقطة"الترياق"، قررت أن تبحث عن قطرة الدمع في وقت لاحق بعد أن يهدأ المطر، لا بدّ أن تلتقي بـ"المغاتير" أو بحرّاس المكتبة٣ نقطة لتستنير بإرشاداتهم قبل أن تبدأ رحلتها.
, وصلوا أخيرًا إلى بستان فردوسي رائع كثيف الأشجار، أسبلت عليه الطبيعة ثيابًا سندسية موشّاة بجلالها القدسي، فأوت إليه البلابل والعصافير وانطلقت تشدو وتغرّد مترنمة بجمال الكون البديع، هرولت "الترياق" نحو ثلاثة من الخيول كانوا تحت شجرة هناك، بدا وكأنّها تعرفهم، أصدروا ضجيجًا عندما رأوها تقترب وصهل فرس منهم بعذوبة، كان هناك بعض الغلمان يحيطون بشاب قمحي البشرة له شعر ناعم وكثيف وطويل إلى حدّ ما، كان ممددًا على أرض البستان بدا وكأنّه فاقد لوعيه، كانوا يغسلون رأسه بالماء ويحاولون إفاقته، تأمّلت ملابسه التي تشي ببساطة حاله وفقره، يبدو مسكينًا بمعطفه المهترئ هذا وجوربه الأرجوانيّ المثقوب، استوقفها أن ملابسه تختلف عن ملابس كل من بالبستان، إنّه معطف يشبه تلك الملابس التي اعتادت عليها "حبيبة" في عالمها، لاحظت بنطال منامته الصوفية أيضًا! أدركت الآن أنّها تقف أمام محارب آخر مثلها٣ نقطةالآن التقت به، هنا على أرض مملكة البلاغة، تماما كما التقت "مرام" بـ "أنس"، جلست تراقب الجميع في حيرة، يبدو أنّهم جميعًا من النوبيين، ما عدا "بركات" وابنته، وهذا الشّاب الغريب، أعارتها "رفيف" حذاء من أحذيتها، فارتدته في الحال وجلست تفكّر، ترى ما الذي تخبئه لها تلك المملكة العجيبة!
1
دروب أُوبال
, كان المطر يهطل بغزارة، الماء الطاهر يغسل كلّ شيء؛ ظهور الخيول الصهباء، وقمم الجبال البيضاء، والصخور الملساء، وشاطئ البحر اللازورديّ القريب، وجذوع الأشجار، وسعف النخيل الأخضر، وأسقف البيوت، وجدران القصور، وأعشاش الطيور، كلّ شيء في مملكة البلاغة أنقى وأزهى تحت زخّات المطر، حتى النفوس ووجوه البشر.
, زمرة من الخيول كانت تركض في تناسق بديع وعلى إيقاع واحد، أصوات حوافرهم وهي تقدح الأرض يتناغم مع ضربات قلوبهم المتلاحقة، كانت قوائمهم تصطف على التوازي بشكل أنيق وهم يتسابقون وقد وحّدوا سرعتهم وكأنّهم نسيج واحد، خفّ المطر شيئًا فشيئًا حتى صار كدمع العين هتونًا رقيقًا، وانبثق قوس المطر يزين صفحة السماء ويصافح خط الأفق من بعيد. صهل فرس منهم فعلت جلجلة رفاقه بأصوات صافية مُسْتَدقة، ثُمّ تقدّمهم فلاحقوه ضبحًا* حتى وصلوا أخيرًا لبستان واسع أخضر مدهام. كانوا عشرة من الخيول العربية الأصيلة لولا تدرّج ألوان أجسادهم وتلك العلامات التي وسموا بها وفرقتهم عن بعضهم البعض لصاروا نسخة واحدة متكررة لا يفرق بينهم البشر بجملة النظر من بعيد، كان كبيرهم كستنائي اللون ذو غرّة بيضاء ملأت جبهته وامتدت على قصبة أنفه، وكان محجلًا* فزادته قوائمه البيضاء الأربعة أناقةً وجمالًا، بينما استقرّت على صدره لطخة بيضاء على شكل نجمة تشبه الوسام. مالوا بأعناقهم يمينًا ويسارًا وهملجوا* في البستان قبل أن يجتمعوا حول زعيمهم. لو كنت خيلًا لأجفلت منهم، ولو كنت من البشر لأجفلت منهم أيضًا! فتلك الأصوات التي تعالت عندما هدأ كريرُ صدورهم لم تكن أصوات خيول أبدًا، بل كانت من أصوات البشر!
, هامش:
, محجلًا: المُحَجَّل من الدَّوابّ هو ما كان البياض فيه في موضع الخلاخيل أو القيود وفوق ذلك
, الضبح: صوت أنفاس الفرس إذا أسرع في العدو وذُكرت في القرآن وهي ليست صهيلا ولا جلجلة.
, الهملجة: هي حسن سير الدابة في سرعة، وهي ما يفعله الفرس عندما يقارب بين خطاه ويمشي في سرعة وبخترة.
, قال زعيمهم وقد اصطفوا أمامه في حالة من الخشوع:
, -فلنستوطن هذا البستان، المكان هادئ وجميل وبعيد عن صخب البشر.
, طالعته فرسٌ فاتنةٌ بعينيها الكحيلتين وأمالت عنقها بلطف وقالت:
, -البستان رائع بالفعل يا "حَيزوم"، وكأنني رأيت هذا المكان من قبل!
, قال وهو يرنو إليها:
, -ربّما مررنا به سابقًا يا "جُمانة"٢ نقطةلكنني لا أذكره!
, صهل الفرس "أبهر" والذي كان يتابع حديثهما باهتمام شديد ثم قال:
, -إذًا فلنبق هنا، وليكن لنا هذا البستان بيتًا ومأوى
, سأل الفرس "أجدل" وهو يقترب منهم:
, -وهل سيتركنا البشر؟ إنهم يلاحقوننا من بستان لآخر، ومن غابة لأخرى منذ شهور، مللنا من الفرار منهم.
, قال زعيمهم"حَيزوم" بجدية شديدة:
, -خُلقنا لهذا، وكرامة الفرس الأصيل ركوبها.
, حمحم فرس أسود بغضب وقال بحنقٍ شديد:
, -ألم نتفق على أن نختَار فُرساننا بأنفسنا؟، وأن نطرح كل من لا يليق بظهورنا أرضًا ولا نلتفت إليه!
, رفع "حيزوم" رأسه قائلًا:
, -نعم٣ نقطةاتفقنا على هذا يا "برق"، فالخيل أعلم بفرسانها، تشعر بهم وبأرواحهم عندما يركبونها، وما زلنا نبحث عنهم، وسنظل نبحث عنهم وإن فرقتنا الحياة.
, دمعت عينا "الجُمانة" واقتربت من زوجها "حَيزوم" وقالت تلومه:
, -لا تذكر الفراق أرجوك!
, انصرفت الخيول عن "حَيزوم" وزوجته "الجمانة"، فقد حمحم بعضهم جوعًا وعطشًا ومضى كلّ منهم يبحث عمّا يسدّ به جوعه، فانفردا تحت شجرة بلوط عظيمة، سكنت إليه فقال يؤنسها:
, -لا تخافي يا جُمانة لن أتركك أبدًا، فروحي أسيرة لديك.
, راقت لها كلماته فطابت نفسها، اقترب منها فمالت برأسها على عنقه، فاجأهما صوت الرعد فارتجف قلبها، انزوت تحت شجرة البلوط وألصقت رأسها بجذعها العتيق، بينما تقدّم "حَيزوم" يراقب صفحة السماء مع رفاقه، هناك شيء غريب يحدث هنا، قوس المطر يزداد اتساعًا، ألوانه تزداد قتامة شيئًا فشيئا ثُمّ هاهي تتوهّج وتشتد وضوحًا، سطع ضوء قوي فاعمى أعينهم للحظات تلاه وميض متراقص وغريب، انبثقت من كلّ الجهات دروب مختلفة، لكل درب منهم بوابة عجيبة تختلف عن الأُخريات!، تختلف في الشكل، تختلف في اللون، وتختلف في ما تخفيه خلفها من عوالم مبهمة لا يدركون كنهها، راودهم شعور جميل وهم يراقبون الدروب بألوانها الخلابة والمحاطة بهالات فضية، وأخرى نارية، إحساسٌ رائع لا يقاوم، بدت وكأنّها تناديهم ليدخلوها، وكأنّها تجذبهم كالمغناطيس وهم لا يملكون المقاومة، قوّة ما تسيطر على عقولهم، ويا لها من قوّة!، صاح "أبهر" بحماس شديد:
, -ما أروعها!
, قال "حيزوم" مسحورًا بجمالها:
, -ما رأيت مثلها من قبل يا "أبهر"!
, ثُمّ صمت هنيهة يرهف السمع وقال:
, - أسمعتم النداء؟
, أجابوه بصوت واحد:
, -سمعناه٢ نقطةسمعناه٢ نقطة
, ثُمّ صهلت الخيول بحماس، الجميع سمع النداء، قال "حيزوم" بنبرة حازمة:
, -فلنكن من اليوم خيولًا لتلك الدروب، خيول "أوبالس"٣ نقطةوسنجيب هذا النداء
, صاح "أبهر" بحماسٍ أكبر:
, -ونعم الرأي سيّدي
, قال "حَيزوم" وقد لمعت عيناه:
, -إذًا فلنتسابق والذي سيعُود من دربه أولًا هو الفائز
, -هناك الكثير من الدروب، سندخلها جميعًا؟
, -لا٣ نقطةيكفي سبعة منّا، ولتبق "البيضاء"، و"الجمانة"، و"الشقراء" هنا بالبستان
, سأله "أبهر":
, -لماذا هنّ بالذات!
, طالعهن "حيزوم" بنظرات تشي بالكثير ثُمّ قال:
, -لابد من بقاء الأمّ، و الزوجة، والابنة هنا، ليكون هذا البستان بيتًا ووطنًا لنا حتى نعود إلى هنا مرّة أخرى!
, ودّع "الجُمانة" بالتفاتة سريعة، وانطلق إلى أحد الدروب وافترق هو ورفاقه، وفور أن دلف كلّ منهم إلى درب من تلك الدروب المختلفة أبرقت السماء وأرعدت فجأة ثُمّ اختفى قوس المطر في الحال، وابتلعتهم الدروب وتلاشت معهم في غمضة عين، بقيت "الجُمانة"* في حيرةٍ شديدة، وبجوارها "البيضاء"* التي كانت ترعاها دومًا كأمٍ حنون، وانضمت إليهما "الشقراء"* تلك الفرس الفاتنة التي شغفها "أبهر" حبًا لكنّه لم يلتفت إليها أبدًا، كان دومًا مشغولًا عنها لكنها لم تتوقف عن حبّه للحظة، بل ويزداد تعلّقها به يومًا بعد يوم. سكنَّ وتلاصقن تحت شجرة البلوط وكأنّ على رؤوسهن الطير، وجلسن ينتظرن عودة الخيول السبعة"حَيزوم"، "أبهر"، "أجدل"، "البحر"، "المسوّم"، "البرق")، وانضمت إليهم "الترياق" الأنثى الوحيدة التي سلكت دربًا من الدروب السبعة والتي كانت تنافسهم دائما بجسارة، كانت تركض بحماس شديد وصدرها يعلو ويهبط ويصدر كريرًا غريبًا، بدت عيناها تبرقان كجمرتين مشتعلتين بينما ابتلعها الدرب الذي دلفته في الحال. مرّ الوقت ثقيلًا ولم يعودوا للبستان٢ نقطةلم ينتهِ هذا السباق! لم يفز أيّ منهم بجائزة! وطال الانتظار.
, هامش:
, (أبهر، أجدل، المسوّم، البرق، الترياق، البيضاء، الشقراء، الجُمانة) كلّها من أسماء الخيول عند العرب في صدر الإسلام
, أما "حَيزوم" فقيل أنه اسم فرس جبريل عليه السلام في غزوة بدر، وأما أول من أطلق اسم "البحر" على الخيل فهو النبي صلى **** عليه وسلّم، والمقصود بالبحر هو كثير الجري الذي لا يصيبه التعب.
,
, ٨ العلامة النجمية
,
,
, أَيجيدور
, وقفت بردائها الفضفاض والأنيق في حفل زفاف شقيقها "أنس" على "مَرام"، تلك الفتاة الرقيقة ذات البسمة الملائكية والتي أخبرهم أنّه التقى بها في مملكة البلاغة! وكانت تلك هي المرّة الأولى التي يردد فيها اسم "مملكة البلاغة" أمامها هي وأمام أمّها المسكينة، والتي أصيبت بصدمة عندما روى لها ابنها "أنس" ما حدث، وبعد أن فاجأها زوجها بما قصّه عن رحلته هو الآخر إلى هناك قبل زواجهما، ومن قبلهما الجدّ في شبابه، أسرار لم تعرفها من قبل تسببت في ارتباك الأسرة لفترة طويلة، وازداد ذهولها من حكايات جدّة "مرام"، و"مرام" نفسها عن تلك المملكة أيضًا. لم تصدّق "حبيبة" في البداية ما أخبروها به، لكنّها وأمام إصرار "أنس"، واجتماعه هو و"مَرام" على نفس التفاصيل، ولأنّها تثق بأبيها وجدّها بدأت شيئًا فشيئًا تتقبل الأمر على مضض، كما بدأت تتعايش مع خوفهم الشديد عليها كلّما رأت كابوسًا أو عندما كانت تتأخر في العودة إلى البيت، فقد كانوا يترقّبون اختفاءها في أيّ لحظة، بل كانوا يحاصرونها! ويراقبون كلّ شاردة وواردة تخصّها، مما أصابها بالضيق والاختناق وخاصّة من هلع أمّها عليها، أمّا والدها و"أنس"، فكانا يُكثران من النصائح والتوجيهات، وكان جدّها يطلب منها زيارته باستمرار وكانت تتهرّب منه، حتى أنّه أعدّ لها حقيبة خاصّة حتى تكون مهيّأة للرحيل في أيّ لحظة، أو الاختطافّ كما كانت تسميه هي بتهكّم، لكنّ هذا لم يمنعها من أن تسألهم من آنٍ لآخرَ عن رحلاتهم، وهم بدورهم لم يبخلوا عليها بوصف كلّ صغيرة وكبيرة مرّوا بها هناك، توقفت لمدة عام عن زيارة جدّها بالفيوم، ثُمّ اضطرت للذهاب عندما مرض مرضًا شديدًا وكان لا بدّ من زيارته ورعايته فزارته مع أسرتها وأقامت هناك لفترة قصيرة، لم تجرؤ خلال تلك الفترة على دخول المكتبة، وفي العام التالي ذهبوا جميعًا لقضاء إجازة العيد مع الجدّ بالفيوم، فدلفت المكتبة مرّة مع أبيها وكانت تتشبث بذراعه طوال الوقت وهما هناك، وأمّا هذا العام فالأمر مختلف، فاليوم هو موعد زفاف شقيقها "أنس"، وبعد أن أصرّ الجدّ على إقامة حفل زفافه ببيته الواسع والأنيق، والذي كان يشبه صالات الفنادق الشهيرة في تصميمه، فقد تم الإعداد للحفل ببيت الجدّ بترحيب من الجميع، وخاصّة أنّ غالب أفراد العائلة يقيمون هناك، وكان "أنس" أكثرهم سعادة بتلك الفكرة، لم تخبرهم "حبيبة" عن هذا الكابوس الذي رأته الليلة الماضية في منامها، فلم يكن الوقت مناسبًا لكي تخيفهم وقد تم بالفعل ترتيب كلّ شيء لإقامة حفل الزفاف ببيت الجدّ، ولأنّها كانت تعلم أن ظروف أخيها المادية لا تسمح بإقامة الحفل في أيّ مكان آخر، وأنّه وبعد خطبة دامت لثلاث سنوات لن يستطيع تأجيل زفافه مرّة أخرى فقد سبق وأجّله مرّتين، وهي تشفق عليه بعد أن عايشت معه ومع أبيها تلك الفترة العصيبة التي كانا يجمعان فيها المال لتهيئة مسكنًا يليق بـ"أنس" وعروسه "مَرام"، فهم رغم مظهرهم الذي يوحي بالثراء يعدّون من الطبقة المتوسّطة الحال، ففضّلت الصمت، وعدَلت عن قرارها بعدم حضور الحفل، والذي همست به لأمّها فقط، عندما لمَّحت لها بخوفها وقلقها من إتمام الزفاف بهذا البيت، فبكت أمّها فور أن علمت بما تفكّر فيه ابنتها، فكيف ستترك شقيقها ليلة زفافه!
, كان القلق ينهش رأس "حبيبة"، وظلّت تقرض شفتيها طوال الوقت، وتتنقل بين ضيوف الحفل بهذا الثوب الواسع الذي ارتدته مرغمة بعد إصرار أمّها، وعانت من بطانته الاسفنجية التي لجأت أمّها لتثبيتها به لينتفش ذيله وتخفي نحافة ابنتها، لجأت لخلع حذائها مرّتين لتريح قدميها، فهي تكره الأحذية ذات الكعوب العالية، لكنّها كانت تُسرع بارتدائه عندما تقترب أمّها منها، وكانت أمّها في كلّ مرّة تراها فيها تقوم بتفحّص ملابسها وحجابها وتضبطه وتؤنبها لأنّها لم تضع القليل من مساحيق التجميل على وجهها كما تفعل الفتيات، شتّان بين ما يدور في رأس أمّها ورأسها الآن، فالأم تحلم بعريس وسيم لابنتها، والابنة تحلم بالهروب من هذا المنزل بأيّ طريقة، والتخلّص من هذا الحذاء.
, كانت دقّات قلب "حبيبة" تتواثب كلّما لاح ضوء المكتبة من بعيد بحديقة بيت جدّها، وكانت الحديقة تعبق برائحة الأطعمة المختلفة، حيث امتدت الموائد العامرة بما لذّ وطاب من أوّلها لآخرها، قررت أن تكسر هذا الخوف الذي يعتصر قلبها وتدخل المكتبة في حضور كلّ هؤلاء الضيوف بالحديقة وعلى بعد خطوات من باب المكتبة، ظنّت أنّها ستأتنس بوجودهم قربها بالخارج، وأنّ وجودهم سيمنع حدوث أيّ أمر غريب، كان جدّها وفور وصولهم مباشرة قد أعطاها مفتاح المكتبة، وكأنّه يدفعها دفعًا لمواجهة الأمر، داست على تلك الهواجس التي تنقر رأسها وأدارت المفتاح في ثقب الباب، كانت الأتربة تغطّي أغلفة الكُتب، اكتفت بنظرة سريعة على المكان، وتنفّست بعمق وهي تحدّث نفسها أنّ هذا الكابوس لا يعني شيئًا، وأنّ الأمور تسير على ما يرام، كانت الغرفة تعبق برائحة الورق العتيق الممتزج برائحة الرّطوبة، وكانت باردة حتى أنّ "حبيبة" أجفلت من هذا البخار الذي كان يخرج من فمها بسبب دفء أنفاسها مقارنة بأجواء الغرفة، وعندما همّت بالخروج وهي سعيدة لأنّها تغلّبت أخيرًا على مخاوفها، انغلق باب المكتبة فجأة فشخصت بعينيها تجاهه، أطبق الصّمت على الغرفة وعُزلت "حبيبة" عن الخارج تمامًا، كانت ركبتاها تصطكّان وتشعر كما لو أنّها تسقط بهوّة سحيقة، اهتزّت جدران المكتبة، حلّقت فوقها الكتب وكأنّ هناك يدًا خفيّة تحرّكها، كانت صفحاتها تتقلّب بسرعة رهيبة، تصاعد صوت صراخ وكأنّ أحدهم يستغيث، كانت الأصوات تردد كلمة واحدة، حاولت أن تهرب لكنّ ساقيها تسمرتا بأرض الغرفة، كانت ترتجف وهي تحدّق في الكتب وهي تدور حولها في دوّامة، توقفت الكتب فجأة وظلّت معلّقة في الهواء للحظات ثم هوت على أرض الغرفة بانتظام في حلقة حولها ودوَّى صوتها بقوّة انخلع لها قلبها، تصاعد الغبار الذي كان متراكمًا على أرض الغرفة فشكّل هالة من الدخان الخفيف حوله، عادت صفحات الكتب تتقلّب بسرعة كطواحين الهواء، انتشرت رائحة غريبة تشبه رائحة الصدأ، ثمّ انغلقت الأغلفة فجأة إلّا كتابًا واحدًا ظلّ مفتوحًا أمامها كانت تهتزّ كورقة شجر تتلاعب بها الرياح في فصل الخريف، احتقنت عيناها وتخشّب لسانها في فمها، رفعت يدها التي كانت ترتجف ووضعتها على صدرها، ثمّ بصعوبة حرّكت قدميها تجاه الكتاب وانحنت تنظر إليه، كانت صورة وجهها تظهر تدريجيًا على الصفحة الأولى وكأنّ هناك شبحًا يرسمها بينما هي تنظر! ازدردت ريقها بصعوبة وحدّقت مرّة أخرى فيها وكأنّها لا تصدق، أغلقت الكتاب لتقرأ عنوانه، كانت هناك كلمة واحدة مكتوبة بخط واضح "أيجيدور"، فزعت عندما رأت الرمز الدّال على الرقم أربعة باللغة النوبية "كيمسو"، كان الرمز يشبه حرف الكاي باللغة الإنجليزية يعلوه خط أفقي٣ نقطة
, ــــــــــ
, K
, حيث أخبرها أبوها أكثر من مرّة أن تنتبه له إن ظهر لها في أيّ وقت أو أيّ مكان، أو حتى في الكوابيس والرؤى التي تراها خلال نومها، كان الرّمز مكتوبًا باللون الأحمر الكرزي على الغلاف من الخلف، بيد أنّ كلّ صفحات الكتاب كانت خالية من الكلام! تماما مثل كتاب "إيكادولي" الذي ظهر لأخيها وكانت صفحاته بيضاء وخالية من الكلمات، تذكّرت ما قصّه لها شقيقها "أنس" عن الأميرة "نَبرة" التي حاولت الكتابة في صفحات كتاب "إيكادولي" بدماء شاب نوبيّ يسمى "كلودة" كان "أنس" قد التقى به أثناء رحلته، وأنقذه من بين يديها وهو ينزف، اقشعر بدنها عندما تخيّلت الأمر، فغطّت وجهها بكفّيها في انزعاج شديد٣ نقطة
, أرادت أن تصرخ لكنّ صوتها لم يخرج من حلقها، حاولت أن تقف على قدميها لكنهما خانتاها، غضنت جبينها وأغمضت عينيها ووقفت مستندة على قبضتي يديها، ألقت نظرة على الكتاب بتحدٍّ وكأنّه عدوٌّ لها، التقطت الكتاب وهرولت نحو غرفتها، قررت تمزيق الكتاب، لكنّها لم تتمكّن أبدًا من تمزيق صفحة واحدة منه! لا بيديها ولا بأسنانها، بحثت عن مقصّ لكنّه لم يعمل ولم يخدش منه ورقة واحدة!، هرولت نحو المدفأة في غرفة المعيشة، وعلى حين غفلة من الحضور ألقت بالكتاب في النار ووقفت تراقبه بعينين متيقظتين، لكنّه بقي كما هو ولم يحترق!، زفرت بحنق، ووقفت تقلّبه في النار لعلّه يحترق، لاحظ جدّها ما تفعله، وكان ثوبها قد استحال لون أطرافه أسود من غبار المكتبة، واحمر وجهها من لهيب النّار، وكان جبينها يتفصّد عرقًا رغم برودة الجوّ فأدرك أنّ حفيدته قد رأت الرّمز! ناداها فالتفتت فزعة ثُمّ هرولت نحو غرفتها وأغلقت الباب، التقط جدّها الكتاب بساق حديدية كان يستخدمها لتقليب الحطب بالمدفأة ولحق بها.
, فتح جدّها الباب فجأة، ورآها تجلس على الأرض، فأسرع نحوها وقال بصوت واهن وهو يقرأ عنوان الكتاب:
, -"أيجيدور"
, حانت منه التفاتة نحوها وسألها:
, -هل رأيت حلمًا غريبًا يا ابنتي؟
, هزّت رأسها في صمت، وقالت بصعوبة:
, -نعم، الليلة الماضية
, كانت تخشّب رقبتها وتحدّق بطرف خفي للكتاب وهو بين يديّ جدها، وكأنّ هناك وحشًا سيخرج من بين دفّاته وينقضّ عليها في لحظة ما، سألها جدّها وهو يُربّت على كتفها:
, -لماذا لم تخبريني؟
, لاحظت نظرات جدّها القلقة فازدردت ريقها بصعوبة وقالت:
, - وسمعت فيه تلك الكلمة التي نطقتها للتوّ يا جدّي!
, -"أيجيدور"؟
, هزّت رأسها موافقة وقالت:
, -كُنت في مكان ما تحت الأرض، ربّما نفقٌ، أو ممرّ، أو زنزانة، لا أدري، سمعت صهيل خيول، وغقغقة صقور، ثُم سمعت نداء غريبًا بأصوات مرتعشة من عدّة أشخاص يمدون إيديهم إليّ والحطام حولهم في كلّ مكان، ورماد الحرائق يغطّي كلّ شيء، وكلّ منهم يصرخ مرددًا: "أيجيدور٣ نقطةأيجيدور"، ثُم رأيت امرأة شديدة الجمال ما رأيت كوجهها من قبل! وكانت تبكي في هلع وهي تتشبث بذراعي وتتألّم، فاستيقظت وصوت صراخها يتلجلج في أذني
, أشفق عليها جدّها وأسندها لتقف وقال وهو يسير معها نحو الطابق العلوي حيث غرفة الأشباح وهو يحمل الكتاب بيده الأخرى:
, -أسرعي يا "حبيبة"، يبدو أنّ هناك من يحتاجك! حان وقت الرّحيل
, قالت برهبة:
, -أرحل! إلى أين؟ هل تعي ما تقوله يا جدّي؟
, -نعم، لا تخافي، فقد رحلت "مرام" من قبل، وهي فتاة مثلك، ستلتقين بـالملكة "الحوراء" هناك
, كانت ترجف وتنتفض فزعًا، ستر الرداء اضطراب جسدها بالكامل واصطكاك ركبتيها وهي تسير بين المدعوين، تعثّرت وتعلّقت بذراع جدّها أكثر من مرّة وهي تصعد الدرج، ظنّ الجميع أنّها هي من تعين جدّها ليسير بينما كان هو من يدعمها ويثبّتها، أشار لابنه "كمال" برأسه وفي عينيه تستقرّ نظرة تشي بالكثير فأدرك "كمال" أن ابنته بها خطب ما، فلحق بهما وصعد الثلاثة للدور العلوي، قال الجدّ لأبيها الذي اغرورقت عيناه بالدموع عندما علم بما حدث، فقد كان يخشى على ابنته:
, -حان الوقت!
, كان "كمال" يعلم أنّ الأمر ليس بيديه، وأنّها إن لم ترحل الآن ستتعرضّ للخطر، ولو تأخّرت في دخولها لغرفة الأشباح ستهاجم أسراب الغربان البيت كما حدث مع "أنس" من قبل عندما تأخّر وهو يتحدّث مع أبيه وجدّه، قال ليخفف عنها:
, -سيكون كلّ شيء على ما يرام، أثق بك يا "حبيبة"، وأعلم أنّك قويّة
, -حتى أنت يا أبي! ظننتك ملاذي الوحيد هنا!
, أشاح بوجهه في ألم وقال وعيناه مغرورقتان بالدموع:
, -تعلمين أن قلبي يتمزّق
, ثُمّ قال بعد تردد وهو يعطيها نفس المفتاح الذي أعطاه من قبل لابنه "أنس":
, -اذهبي يا ابنتي ولا تتخلي عن يقينك ب****
, كان الجدّ يضع حقيبتها في غرفة الأشباح على الدوام، وقف الثلاثة أمام بابها وما زالت لا تُصدّق أنّها في تلك الساعة من الليل ستدخلها! قالت بتصميم:
, -لن أدخلها ولن أرحل من هنا!
, فتح أبوها باب غرفة الأشباح وأضاء المصباح، كانت الغرفة مهيبة، وخالية من الأثاث، رأت الحقيبة على الأرض، قال جدّها وهو يُشير إليها:
, -هذه حقيبتك، فيها الخنجر كما أخبرتك من قبل
, -لن أرحل!
, قال أبوها:
, -الوقت يداهمنا، أنتِ في خطر!
, -لن يحدث شيء، ولن تجبروني على الرحيل
, تركتهما وهرولت نحو غرفتها مرّة أخرى، في ذات اللحظة لاحظ "أنس" اختفاء أخته "حبيبة" فأجفل عندما تناهى إلى سمعه صوت نعيق الغربان الذي بدأ صداه يتردد في الأجواء وهي تحلّق فوق البيت في دوائر فسقط قلبه، وكان يودّع آخر المدعوين أمام باب البيت، فهرول نحو جدّه وسأله عن أخته فأخبره بما حدث، ذهب إلى غرفتها وحاول فتح الباب لكنّها كانت قد أغلقته بالمفتاح وجلست كالصنم على الفراش، دفع الباب بكتفه واقتحم الغرفة مناديًا عليها:
, -"حبيبة"!
, لم تُجبه ولم تلتفت نحوه، أمسكها من ذراعيها وأوقفها ثُمّ احتضنها وهمس في أذنها:
, -أعلم أنّك خائفة يا أختي، لكنّك الآن في خطر
, صاحت بغضب هادر:
, -خطر! الخطر هو ما تدفعونني للذهاب إليه وحدي؟ ألا تخافون عليّ!
, قال وهو يربّت على ظهرها:
, -وأنتِ الآن في حضني من يحميك؟
, قالت بثقة:
, -****
, -وهذا يقيني ويقينك الذي تربينا عليه يا "حبيبة"، لا تنسي أنّك الآن محاربة
, -لست محاربة٢ علامة التعجبولن ألقي بنفسي في النار وأزعم أنني لن أحترق! هذا جنون!
, -ادخلي غرفة الأشباح
, لم تجبه وبقيت على صمتها وعنادها، قال برجاء:
, -ثقي بي
, علا صوت نعيق الغربان، حلّقوا فوق البيت، حطّم الغربان بعض النوافذ، دلفوا المنزل، بدأوا يهاجمون الخدم، وعلا الصراخ والغربان تنقر أجسادهم، أمسكها "أنس" من ذراعها وركضا نحو غرفة الأشباح، وقال بجدية شديدة:
, -أنت الآن تعرضين كل من تحبينهم للخطر، وربّما تفقديننا جميعًا
, قالت غاضبة:
, -لم أعرّض أحدًا للخطر!
, -أنت تفعلين هذا الآن،٣ نقطة"حبيبة"، عندما تبدأ رحلتك سيختفي كلّ شيء هنا، لا تؤذيهم٣ نقطة
, -لا تقل هذا مجددًا، أنا لم أؤذ أحدًا!
, ازداد صراخ الخدم، أشفقت "حبيبة" عليهم وهم يصرخون، واعتصر قلبها عندما تخيّلت أنّ الغربان ستصل لأبيها وأمّها بعد قليل، نظرت لأخيها وكانت حائرة، في تلك اللحظة، كانت "مرام" قد لحقت بهم وصعدت الدرج بفستان زفافها الأبيض، ووقفت أمام الغرفة وقالت لـ"حبيبة" بثبات:
, "حبيبة"٣ نقطةلا تهربي واصطدمي بكلّ قوتك"
, التفتت نحوها وتذكّرت كيف كان "أنس" يروي لها عن "مرام" وكيف أنّ قوتها كمحاربة كانت في ثباتها على الحقّ، وليس في قوّة بدنها، فاستعادت رباطة جأشها، فهاهي فتاة مثلها قد ذهبت وحيدة وعادت على خير حال، قالت أخيرًا بصوت تخنقه العبرات:
, -حسنًا يا "أنس"٢ نقطةاخرج وأغلق الباب في الحال
, ربّت على كتفها وأسرع خارجًا وهي تطالعه بنظرة لم يرها على وجه أخته من قبل فانخلع لها قلبه، وأغلق الباب ووقف يستند برأسه عليه من الخارج وهو يصيح:
, -في أمان **** حبيبتي٢ نقطةفي أمان ****
, سكنت في مكانها للحظات كالصنم ثُمّ حاولت فتح الباب لكنّها فشلت، دارت حول نفسها وكانت تتخبّط في حيرة، أمسكت بحقيبتها، ووقفت تراقب الظلّ الذي كان يقترب من النافذة، اختفت كلّ الأصوات حولها، وعلا صوت خفق جناحين عظيمين، تراجعت "حبيبة" حتى التصق ظهرها بالجدار، ووقفت تراقب ظلّ هذين الجناحين وهو يقترب، كان حجم الظلّ يزداد شيئًا فشيئًا، دارت أنثى الصقر دورة واحدة في سقف الغرفة المرتفع فاهتزّ المصباح وتأرجح، ثُمّ هبطت وطأطأت رأسها وسكنت أمامها على الأرض، وقع في نفس "حبيبة" أنّ تلك هي "قطرة الدّمع" التي حملت "مرام" لمملكة البلاغة من قبل، فوقفت تحملق فيها تحت ضوء المصباح وهو يتأرجح، كانت عيناها تبرقان، لها ظهر أخضر زبرجدي، والجسد أبيض يخرج منه جناحان بديعان مبرقشان، وذيل عريض ومستدير عند نهايته، ذو طرف أخضر قاتم وعلامة بيضاء على أقصاه. ويظهر أعلى رأسها على الجانبين لون زمرّدي بديع يتصاعد قتامة حتى أعلى رأسها وكأنّه تاج!، ويمتد على الوجنتين كخطّ رفيع داكن يتباين بشكل حاد مع جانبيّ العنق الباهتين، بدت مهيبة الطلعة كالملكات.
, ضمّت جناحيها وألصقتهما بجسدها، حدّقت في "حبيبة" بعينيها المخيفتين، ثُمّ غطّست رأسها في جسدها. مرّت لحظات طويلة على "حبيبة" استيقظت فيها كلّ حواسها، كانت ترهف السمع بشدّة وتنتظر أن تبدأها هي بالكلام، وهذا ما حدث بالفعل عندما قالت بصوتها المهيب:
, -أنا "قطرة الدمع" يا "حبيبة"، سنرحل حالًا، فالأمر جدّ خطير، ولا بدّ أن نسرع لنتمكن من لقاء "الحوراء" فقد لا نلتقي بها مرّة أخرى
, -لماذا٣ نقطة
, أرادت "حبيبة" أن تتحدّث معها قليلًا، لكنّ"قطرة الدمع" لم تتركها لتكمل كلماتها، وطارت فجأة بضربة جناح واحدة واستوت على رأسها، فاقشعر بدن "حبيبة" ووقفت منكمشة وهي ترفع عينيها إلى أعلى، كانت "قطرة الدمع" متعجلة وكأنّ هناك من يطاردها، بسطت أنثى الصقر جناحيها في الهواء، ثُمّ احتضنت وجه "حبيبة" بهما ببطء وبهدوءٍ شديد، حيث غطت وجهها كلّه بريش جناحيها ريشة فوق ريشةٍ بانتظام، جبهتها وعينيها وأذنيها وخديها، لم تترك إلا أنفها وفمها لتتمكن من التنفس والكلام. شعرت"حبيبة" بجسدها يخدّر، وسرى في نفسها شعور غريب، شيئًا فشيئًا خفّ جسدها وكأنّها ريشة في جناح الصّقر! حاولت فتح عينيها٢ نقطةكانت تظنّ أن ريش جناح "قطرة الدمع" ما زال يغطيهما، لكنّها فوجئت بنفسها تطير فوق بحر لازوردي واسعٍ وفي وضح النهار!
, كانت البروق تتوالى وتشق صفحة السماء وكأن هناك سيفًا عظيمًا من لجين يضوي، اقتربت "قطرة الدمع" وهي تخفق بجناحيها بينما تحمل "حبيبة" بمخالبها وتحلّق فوق البحر، والتي كانت تقاومها بعصبية شديدة، وتتأرجح في الهواء وتحاول التملص من بين مخالبها، ما زالت تستنكر ما يحدث لها، وما زالت ترفض الأمر، يا لها من فتاةٍ عنيدة!
, رجف قلبها عندما أرعدت السماء، اقتربت سحابة هشّة شاهقة البياض منهما وانبثق ضوء قويّ من بين طيّاتها وترجرج شعاعه وكأنّه يلوّح في السماء، ثُمّ سقط على وجه "حبيبة" فشعرت بخفّة وانشراح، لم تحترق! لم تتبخّر، لم تتلاشَ في الهواء!
, انعكس الضوء من جبهتها على سطح ماء البحر وقد انحدر منه شعاع لطيف ملوّن اختلط بأمواج البحر، حتى الزبد ترقرق وتهادى وكأنه يتراقص فرحًا وطربًا مما أذهل "قطرة الدمع" التي أصدرت صيحة غريبة تردد صداها في الأجواء وقالت برهبة:
, -"أيجيدور"!
, سحب الضوء رداءه الملوّن واختبأ في حضن السماء التي أرعدت فجأة وأبرقت مرّة أخرى فأصيب جناح "قطرة الدمع" بشرارة من شرارات البرق التي ملأت الأجواء، بدأ ريشها يدخّن ويحترق فألقت بـ"حبيبة" في ماء البحر رغمًا عنها ومالت نحو الغابة القريبة من الشاطىء، هوت وسقطت بسرعة شديدة واختفت بين الأشجار.
, غاصت "حبيبة" في ماء البحر واختفت تحت سطحه وأحاطتها الظلمة من كل صوب، كاد ثوبها الثقيل ببطانته الاسفنجية يُغرقها فقد التفّ على جسدها وأعاقها فلم تتمكّن من السباحة، شعرت بدوّامات الماء تدور خلف ظهرها وكأنّ الماء يدفعها دفعًا تجاه سطحه، رفعت رأسها أخيرًا وشهقت ثُمّ بدأت تضرب الماء بذراعيها سابحة نحو الشاطئ، خرجت منه و الماء يقطر من ملابسها وهي تركض حافية القدمين بعد أن فقدت حذاءها عندما سقطت في الماء، سارت بين مجاميع الأشجار الكثيفة بحثًا عن "قطرة الدمع" هنا وهناك، كانت تنادي عليها وهي تسير بصعوبة بين الأحجار، وتكرر النداء كلما توقفت لتلتقط أنفاسها.
, بعينين نابهتين، وبجبهة واثقة، وبرأس متعاليةٍ بكبرياء، وبصدر يرحب بالحياة والموت معًا، حيث الروح محلّقةً في رحاب **** وقفت "حبيبة" بقامتها متوسطة الطول وقوامها المشدود متأهّبة لما هو قادم، علت وجهها غيمة حزن للحظات، بدأت تجول بعينيها اللوزيتين وتمشّط المكان، لها نظرة تشبه نظرات أخيها "أنس"، تذكّرت تحذير جدّها مرارًا لكي لا تُكرر ما فعله شقيقها من قبل، عندما اندفع راكضًا في الغابة ولم ينتظر لقاء "المغاتير"*، ولكنّها أُرغمت على خوض تلك الغابة، وهاهي وحيدة الآن!
, هامش: لقب لمجموعة من الفرسان وهم من شخصيات الجزء الأول، والمغاتير لقب يطلق على نوع من الإبل البيضاء النفيسة جميلة المظهر وغزيرة الوبر، يقول عنها أهل البادية: المغاتير نور القلب.
,
, بدأت تتحسس بيسارها الخنجر وكتاب "أيجيدور" بحقيبتها القماشية المبتلّة، أخبرها جدّها أنّ عنوان الكتاب كلمة نوبية تعني أنقذني، وكانت صيحة "قطرة الدمع" بتلك الكلمة عندما رأت البرق تتردد في أذنيها.
, رفعت كفها الأيمن لتتحسس القلادة وأظهرتها من أسفل حجابها ودارت بعينيها في المكان مرّة أخرى، متأهّبة كانت، تنتظر زعيم "المجاهيم"* ليظهر أمامها فجأة. رفعت رأسها وحدّقت في السماء مرارًا، كانت ترزح تحت موجة من المشاعر المختلطة، خوفٍ، وحذرٍ، وتأهّبٍ، وسخطٍ شديدٍ على هذه الرحلة التي أرغمت على المضي فيها، ورغبة شديدة في البكاء، لكنّها لن تبكي أبدًا٢ نقطةلن تبكي!
, هامش: المجاهيم لقب يطلق على مجموعة من الجنّ وهم من شخصيات الجزء الأوّل، رجل جهم الوجه أي كالح الوجه، ومعنى جهمه جهمًا أي استقبله بوجه كريه، ولقب المجاهيم يطلق على بعض أنواع الإبل النجدية السوداء ، كبيرة الحجم وضخمة العظام، تتحمل الظروف القاسية بكل تضاريسها وتحولاتها المختلفة
,
, في طفولتها لم يكن البكاء خيارها الأول عندما كانت تقع في ورطة ما أو تفقد لعبتها، بل كان الخيار الأخير، والآن وهي في التاسعة عشرة من عمرها فلن يكون البكاء ضمن خياراتها المتعددة، فهي تكره البكاء! وتراه ضعفًا لا يليق بها.
, تذكرت نظرات "أنس" وهو يروي لها ما مرّ به. وتلك التفاصيل الصغيرة التي روتها لها "مرام" عن كل من التقت بهم في مملكة البلاغة، (أشريا، كلودة، الزاجل الأزرق، المغاتير، المجاهيم، كومبو، الحوراء، سامي كول، وحراس المكتبة)*، كانت تحفظ أسماءهم جميعًا وتسترجعها الآن. مرّت لحظات ثقيلة قبل أن ترى طيفًا يقترب، هناك من يشقّ طريقه بين الأشجار٣ نقطة بغُرّتها الناعمة، وعينيها اللامعتين، وظهرها المستقيم وذيلها المرتفع بأناقة، كانت تلك الفرسٌ تهرول نحوها بخفّةٍ ورشاقة، ترفع وتخفض رأسها وكأنّها تحييها!
, هامش:
, أشريا، كلودة، الزاجل الأزرق، المغاتير، الحوراء، حراس المكتبة، وقطرة الدمع من شخصيات الجزء الأول برواية "إيكادولي"
, اندهشت "حبيبة" عندما رأتها تقترب، جمالها الأخّاذ عقد لسانها، رفعت كفّها ببطء وبحرص شديد ووضعتها على رأس الفرس، تخشّب جسدها للحظات،كانت تترقب ردّة فعلها، تعجبّت عندما رأتها تغمض عينيها وتستعذب لمس كفّها لرأسها بلطف! همست بصوت مرتعش:
, -كم أنت جميلة، ما أروع عينيك!
, كانت تلك هي "الترياق" التي سلكت دربًا من تلك الدروب العجيبة تسابق رفاقها الستة، مرّ وقت ليس بالقليل عليها وهي تطوف بالغابات والبساتين بحثًا عن رفاقها لكنّها لم تعثر عليهم، ظلّت "حبيبة" تربّت على رأسها وتتحسس بلطف عنقها الذي كان لونه الأحمر القاني الضارب للسواد رائعًا وخلّابًا، اطمأنّت "الترياق" لها فقالت بصوت عميق له رنّة مميّزة:
, -السلام عليكِ
, قفزت "حبيبة" للخلف في ذعرٍ عندما سمعت صوتها، لكنّها سريعًا ما استعادت رباطة جأشها وطَمْأنت نفسها، فطالما الصقور تتكلّم هنا فما الغريب إن حدّثتها الخيول! ازدردت ريقها بصعوبة وردّت السلام باقتضاب، أحنت "الترياق" رأسها وكأنّها تحاول أن تشعرها بخضوعها لها وقالت:
, -أنتِ غريبة عن تلك البلاد، أليس كذلك؟ فتلك الثياب لا تشبه أيًّا من تلك التي رأيتها خلال جولاتي هنا وهناك.
, حرّكت "حبيبة" ثوبها ببطانته الإسفنجية السخيفة وقالت وهي تعصر طرفه بيديها:
, -نعم أنا غريبة
, -عمّ تبحثين إذًا أيتها الحائرة؟
, -عن "قطرة الدّمع"٣ نقطةهل تعرفينها؟ وهل سمعتِ عن "المغاتير"؟
, -لا٢ نقطةلم أسمع عنهما!
, -هل تعرفين أين قصر "الحوراء"؟
, -لم أسمع عنه أيضًا!
, أدركت "حبيبة" أنّ تلك الفرس لا تعرف أنّها محاربة، عادت تقترب منها ووضعت كفّها على رأسها مرّة أخرى ومررتها خلال غرّتها السوداء فأظهرت الفرس أُنسًا لفعلها مرّة أخرى وقالت:
, -اسمي "الترياق" وأنا من إناث خيول "أوبالس"
, قطّبت "حبيبة" حاجبيها وسألتها:
, -وماذا تعني "أوبالس"؟
, -لا أدري، هكذا أخبرنا زعيمنا "حَيزوم"، فنحن عشرة من الخيول لا نعرف إلّا بعضنا البعض، ولا نذكر ماضينا وقد ضللنا الطريق لفترة طويلة، كنّا نركض من بستان لآخر، نركض وحسب!، ولا نذكر إلّا أسماءنا فقط.
, -غريب أنّ اسمك عربيّ أصيل٣ نقطة "الترياق"!، وكذا اسم زعيمكم "حَيزوم"، أمّا لقبكم هذا الغريب فيبدو لي أنّه ليس بعربيّ أبدًا!٣ نقطةحسنًا أيتها "الترياق" فلنبحث معًا عن صديقتي بالغابة، هي أنثى صقر واسمها "قطرة الدمع" فهل ستساعدينني؟
, أحنت "الترياق رأسها واقتربت لتمكن "حبيبة" من ركوبها، ترددت "حبيبة" للحظات ثُمّ صعدت على ظهرها بحذرٍ شديد عندما تذكّرت أنّها فقدت حذاءها ولن تستطيع السير حافية في الغابة، فمن الجميل أن تستعين بفرس في رحلتها حتى تعثر على حذاء مناسب لها، وقالت بعد أن استوت على ظهر "الترياق":
, -سامحيني فملابسي ما زالت مبتلّة بماء البحر
, حمحمت الفرس وقالت:
, -تمسّكي جيّدًا ولا تقلقي٣ نقطةسأسير ببطء حتى تعتادي على ركوبي
, ومضت "حبيبة" تتجوّل في الغابة تبحث عن "قطرة الدمع" ومعها رفيقة جديدة بدأت تأنس بها، ساقتها إليها درب من دروب عجيبة فُتحت فجأة وظلّت معلّقة في الهواء بعد أن سقط المطر، شيئًا فشيئًا بدأت تعتاد عليها، انحنت "حبيبة" بجذعها للأمام، شعرت "الترياق" بأنفاس الفتاة الدافئة تلامس عنقها فبدأت تسرّع من هملجتها في الغابة، أسرعت٣ نقطةوأسرعت٣ نقطةوأسرعت، حتى شعرت حبيبة أنّها تطير، أصبحتا وكأنّهما كيان واحد يركض ويعدو، صوت حوافر "الترياق" وهي تدقّ الأرض أطرب "حبيبة"، كانت تحلم بالفروسية، كثيرًا ما تمنّت أن تمتطي فرسًا كهذه، كان هذا ضمن أحلام يقظتها، وها هي الآن تمتطي فرسًا جميلة ورشيقة، قطعا معًا مسافات طويلة في تلك الغابة، كان الجوّ باردًا ورطبًا، هدّأت "الترياق" من سرعتها وعادت بـ"حبيبة" للمكان الذي التقيتا فيه أوّل مرّة٢ نقطةلتبدأ الحكاية٣ نقطة
,
, ١٣ العلامة النجمية
,
, "قلعة الدَّيجور"
, نام قرص الشمس على صدر الأفق متدثرًا بزرقة السماء، ما زالت الغيوم عالقة، فاحت رائحة الرطوبة في الهواء، فقد ابتلّت جدران البنايات في حيّنا البسيط بزخّات المطر بعد أن أرخت السماء أجفانها المخضلة بالدموع. في بيت كان عامرًا بأنفاس أمي كنت أجلس ساكنًا على كرسي خشبي هالك متكئًا بمرفقي على سطح المكتب البارد في غرفتي التي أصبحت كمغارة "علي بابا" منذ بدأت كتابة تلك الرواية. نافذة مغلقة وأكوام من الأوراق والكتب والملابس هنا وهناك، كان يزعجني أن تحرّكها أمي عندما أشرع في الكتابة فأصدها وأمنعها حتى تيأس وتتركها على حالها لترضيني، وتخرج بهدوء لتغلق الباب المقيت الذي يفصلني عن حياتها البسيطة التي لا تدور إلا في فلكي، وهأنذا الآن عالق بين السطور لم أحرّك شيئًا من مكانه منذ فترة طويلة. أحاول إنهاء تلك الرواية قبل أن تلحق بسابقاتها، فلم أفلح يومًا في كتابة ختام لرواية! تراكمت الأوراق في درج مكتبي، وعلى الرفوف، وتحت فراشي، لا توجد نهايات للروايات التي أكتبها، ولا أدري ما السبب! أقف دوما عند نقطة ما وينضب فكري فجأة! أصاب بصقيع في رأسي وأعجز عن التفكير وكأنني لم أكتب من قبل، وأفشل في إتمام ما بدأته، كرهت هذا في نفسي كما كرهت نوبة الإحباط الشديدة التي تصيبني في كلّ مرّة. هذه الليلة، عزمت بشدّة على إكمال تلك الرواية، فتلك النهايات المفتوحة تبقى ملتصقة بروحي وجوارحي وأشعر بالثقل والهوان والضعف وكأنني أجرّها خلفي في كل مكان، وكأنّ شخوصها يطاردونني ويلومونني على ما فعلته بهم، مللت من تكرار سؤال الناس لي عن الجديد، وهم يعلمون أنني اعتزلتهم من أجل الكتابة، وها هو العام تلو العام يمر بلا ثمرة ترضي فضولهم. عطستُ عطسةً قويةً آلمتني على إثرها ضلوعي وشعرتُ بقشعريرة فقمت وارتديت معطفًا دخّاني اللون لم يمرّ على الكواء منذ فترة طويلة فوق منامتي الصوفية الزرقاء، وارتديت جوربًا أرجوانيًا قديمًا لأتدفّأ به، كان مثقوبًا لكنني لا أشعر بالدفءِ إلّا إذا ارتديته، أغلقت أزرار المعطف وعدت لمقعدي في الحال، بردت قهوتي فرشفت منها رشفةً ورحت أتلذذ بنكهتها على طرف لساني،كنت أحملق في أوراق دفتري وأقرض أظافر يدي اليسرى وأنتظر اقتناص فكرة ما لأكمل الفصل الأخير من الرواية عندما شعرت بشيء غريب!
, بدأ جسدي يتصلّب وكأنني أصبت بالشلل، خفوت شديد اعتراني وأحسست بدوار شديد ثمّ ثقلت أنفاسي، صرت أشعر وكأن كل شبر من جسدي تحول إلى رمال، ذرّة تلتصق بذرّة وتطبق عليها بقوّة وهناك من يحاول سحب هذه الذرّات، حاولت أن أصرخ لكنني لم أتمكن من تحريك شفتي ولا لساني، أغمضت عيني واستسلمت لهذا الشعور بالانسحاق والتلاشي، ازداد إحساسي بكون أطرافي كتلًا من الرمال، بدأت أشعر أن ذرات تلك الرمال تتطاير شيئًا فشيئًا وتتسرّب من بين أضلعي، وكأنّ روحي ترحل وتغادر جسدي وتصّعّد في السماء، شعرت للحظات بالخفة وكأنني فقاعة تسبح في الهواء، وفجأة داهمني إحساس قوي بالسقوط من مكان مرتفع وبسرعة شديدة ازداد لها خفقان قلبي، بدأ جسدي يؤلمني وكأن هناك من يهرس لحمي ويخمشه بمخالبه تارة ويدكُّها بقبضته تارة أخرى، وتوالت الضربات، ثم عاودني الإحساس بأن جسدي يتكوّن من حبّات رمال وهي الآن تتراكم فوق بعضها البعض، حتى أنني سمعت عَزيف* الرمال وهي تتحرّك، وفجأة! اندفع الهواء متدفقًا إلى صدري بقوّة فشهقت بصوت مسموع قبل أن أفتح عيني لأفاجأ بها أمامي، إنها الجميلة "جلاديولس"* تأمر أحدهم بحزم ولهفة:
, -أحضره إلى هنا في الحال!
, برداء حريري فاخر تنحدر اللآليء السوداء على أكمامه وأطرافه كانت تقف بشموخ وحولها الحراس،كان العقد يتألّق حول عنقها كفرع مرجان يلمع تحت سطح الماء، يعكس على بشرتها خيالات جميلة، وكانت عيناها تبرقان وهي تتفحص ملابسي بإزدراء، ما زلت أرتدي منامتي الصوفية الزرقاء وعليها معطفي البالي، جوربي الأرجواني القديم المثقوب ما زال على قدمي، رطوبة غرفتي ما زالت تلتصق بأنفي، وما زالت مرارة القهوة التي كنت أرشفها قبل أن أنتقل فجأة إلى هذا المكان الغريب على طرف لساني٣ نقطة
, هامش:
, "العَزيف" هو صوت الرّمال إذا هبّت بها الرّياح
, "الجلاديولس" نوع من الزهور يرمز لقوّة الشخصيّة ألوانه متعددة ويعيش لفترة طويلة.
, بملامح جميلة لكنّها صارمه وصوتٍ خالٍ من العاطفة قالت:
, -وأخيرا وصلت، أهلكنا انتظارك!
, قُلتُ بلهجة الذي أفاق من غيبوبة طويلة وكنت أشعر بالذهول:
, -"جلاديولس"! معقول! أأنتِ هي بالفعل؟
, ثُمّ ازدردتُ ريقي بصعوبة وقلت بخفوت:
, -لا بدّ أنني أحلم! أنت أميرة القلعة٣ نقطة"قلعة الدَّيجور"*
, -وما الجديد في هذا!
, قلت هامسًا وكأنني أخشي أن تسمع كلماتي:
, -إنّها٣ نقطةرواية من رواياتي٢ علامة التعجب
, هامش:
, الدَّيجور أي الظلمة، ويُقال ليل ديجور أي ليل مظلم شديد السواد، وجمعها دياجير
, راحت تطالعني بعينيها اليقظتين وقالت:
, -أين كتاب "أيجيدور" أيها المحارب؟
, قُلت متعجبًا:
, - "أيجيدور"٢ علامة التعجب وماذا تعني تلك الكلمة؟ ولم تنادِينني بالمحارب؟
, -لأنّك محارب!
, هززت كتفي وقلت باستنكار:
, -لست محاربًا يا "جلاديولس"
, لكزني أحد الحرّاس في صدري فأوجعني وقال بغلظة:
, - الأميرة "جلاديولس".
, كُنت أحتاج لوقت لكي أستوعب كلّ هذا، لست ببيتي، ولم أفقد وعيي، ويبدو أنّه ليس حلمًا فأنا أتألم من ضربة وجهها لي حارس أحمق! وأنا أقف الآن أمام أكثر شخصيات رواياتي شرًا وحقدًا ونفوذًا٣ نقطةوجمالًا أخّاذًا، لا أدري أين! ولا كيف! هذا شيء عصيّ على الفهم، لكنني بالتأكيد فقدتُ عقلي. عندما جلت بعيني في المكان بتفاصيله الدقيقة أصابتني نوبة هستيرية من الضحك، انخرطت في الضحك ببلاهة! كنت أرتجف وأنا أقهقه كالمجنون، ثُم شعرت بغصّة في حلقي وبدأت أشعر بالرّهبة عندما طالعت وجوه حرّاسها حولها وقد كانوا أيضًا كما وصفتهم في روايتي، وجوه مكفهرة مظلمة، وجماجم ضخمة مثقوبة بعيون قاتمة ضيّقة، يلهثون في جشع كالوحوش والعرق يغمر جبينهم بالكامل، كان المكان مقفرًا ومخيفًا، وكيف لا٣ نقطةوقد غابت الشمس خلف السحب السوداء التي أحاطت بهذا المكان من كلّ صوب، لا شمس، لا نور، لا مطر يغسل الأجواء ويخفف عنهم ما هم فيه من ظلمة، شُعلُ النار التي لا تنطفئ أبدًا هي مصدر الضوء، لا بدّ أن يحترق شيء ما لكي تنير "قلعة الدَّيجور" وما حولها، ولكي يستدلوا على الطريق ويمارسوا حياتهم بطريقة ما٢ نقطة لا بد من٢ نقطةنار٢ نقطةحريق٢ نقطةنهاية٢ نقطةرماد٢ نقطةأو فناء٢ نقطةهؤلاء قوم لا يعرفون النهار!
, قالت "جلاديولس" بعصبية شديدة:
, -فتِّشوه
, اقترب الحراس ففاحت من أجسادهم رائحة الحطب المحترق، قلّبوا ملابسي وخلعوا عني معطفي، وفتشوني بدقّةٍ شديدةٍ ولم يعثروا بالطبع على الكتاب الذي سألتني عنه الأميرة "جلاديولس"، غمغم أحدهم وهو يرشقني بنظرة حاقدة:
, -يبدو أنّه لم يلتقِ بحراس المكتبة بعد يا مولاتي، وربما فقد الكتاب!
, قالت بازدراء وهي تتأمّل شعري المُهمل، وملابسي البسيطة التي كنت أرتديها بالبيت ، وعيني المتعبتين والمحلّقتين بالسواد من السهر على الكتابة طوال الشهر الماضي:
, -تلك السحنة وهذه الملابس لا تليق بمحارب، لا يبدو محاربًا أبدًا٣ نقطة
, ثُم التفتت "جلاديولس" لأحدهم وقد كان يقف خلفي مباشرة فالتفتُ معها في ذات اللحظة فأصابتني قشعريرة عندما رأيت وجهه الذي كان قطعة من الظلام تسبح بين طيّات الثياب، لا ملامح ولا عينين! هذا ليس ببشر!٣ نقطةلا بد أنّه شبح أو ربّما من الجان٢ نقطة
, قالت الأميرة موجهة كلامها إليه:
, -يبدو أنّك فشلت في مهمتك
, قال بصوت أجشّ غاضبٍ وكأنّه نابع من بئر عميق:
, -"المجاهيم" لا يفشلون في مهامهم أبدًا، كانت الصقور تردد اسمه في الأجواء منذ فترة، هذا كاتب وليس بمحارب.
, -وماذا سأفعل بهذا التافه! انظر إلى هيئته وثيابه الرثّة٣ نقطة
, شعرت بالدماء تتصاعد لرأسي، كرهت نظراتها لي ولثيابي، قال المسخ ردًا على كلماتها الأخيرة:
, -له دور في كل شيء يحدث هنا يا صاحبة الجلالة، وسيظهر المحارب ومعه كتاب "أيجيدور" لا ريب، فخطوطهما ستتقاطع هنا وسيكملان مهمة ما تتعلّق بالكتاب، احتَجِزوه لفترة وجيزةٍ وسيبحث المحارب عنه وعندها ستحصلين على الكتاب ستحلّ الأمور بشكل مختلف، ولن يحدث ما تخشين حدوثه، سأرحل الآن فقد وفّيت بوعدي وجاء دورك، لا تنسي وعدك ٣ نقطةلا تنسِي فنحن لا ننسى.
, قال جملته الأخيرة بنبرة لا تخلو من التهديد واختفى في لمح البصر بعد أن تركها وقد جمدت في مكانها للحظة وبدا عليها الخوف، لكنها حرّكت يدها في شعرها وهزّت كتفيها بخيلاء واستدارت ترفل في ثيابها السوداء محاولة إخفاء ما أصابها من هلع. سَبرتُ أغوار عقلي بحثًا عن كلمة "المجاهيم" لكنني لم أتذكر أنني كتبت عنها في رواياتي!، رحت أتخيل راجفًا كينونة هذه المخلوقات،كلّ شيء هنا أعرفه إلا هذا الذي يدّعي أنّه منهم! ولم أذكر أبدًا كتابًا بعنوان "أيجيدور" الذي سألتني عنه الأميرة! كما أنني لست محاربًا بالفعل!
, -ما اسمك؟
, باغتتني بسؤالها وكنت غارقًا في خواطري التي توالت كالبروق المتلاحقة حتى أنني تأرجحت في مكاني للحظة، أجبتها في الحال:
, -"يُوسف"
, قالت بغطرسة وجمود:
, -انقلوه إلى سجن قلعة الدَّيجور ريثما أفكر في أمره.
, قُلتُ بانزعاج شديد:
, -يا إلهي! هل تعين حقًّا مدى سخف ما تتكلمين عنه؟ سجن القلعة! حيث العذاب، والجثث المتفسّخة، ومخالب من حديد يرتديها حرّاس أغبياء في أصابعهم الغليظة و ينهشون لحم من يدخل إليهم بأمر منك٢ علامة التعجب
, التفتت بعصبية ورشقتني بنظرة مفعمة بالاحتقار وقالت:
, -قيّدوه في الحال، واسجنوه حتى نحاكمه .
, تمنيت لو انتهى الأمر هنا واستيقظت من نومي على صفعة من أحدهم ليوقظني من كابوس مزعج، أو بهزّة من يد حانية وهي ترقيني وتمسح على صدري كما كانت تفعل أمي، لكنّهم قيّدوني بالسلاسل وجرّوني خلفهم حيث يحيطنا الظلام من كلّ صوب، وفوق رؤوسنا السماء مدلهمّة يملؤها السحاب الأسود يملّس بعضه على بعض يتكثّف ويتداجي ويختنق، والجنود الغلاظ يحملون شعل النار يهتدون بها بين الأشجار، تتراقص انعكاسات اللهب على أكتافهم العارية، وقد أطلّت نيران "قلعة الدَّيجور" وسط الظلمة الحالكة من بعيد ونحن نسير تجاهها، هنا خفق قلبي بشدّة وخالجني شعور بالحزن٣ نقطة
, أين أنا؟
, وما الذي يحدث لي؟
, لقد ندمت تلك اللحظة أنني كتبت تلك الرواية بكل ما فيها من ظلم وقسوة، تذكرت الأميرة "هيدرانجيا"* وما حدث لها، لا أريد أن أعيش ما ستمرّ به تلك الجميلة، لا أريد أن أراه بعيني، راودني شعور بالذنب كاد يقتلني، شعرت بالوحدة وسرت معهم مشتت الفكر ثائر الوجدان أسيرًا لشخوص رواية مقيتة فشلت في أن أدوّن لها نهاية، ويبدو أن نهايتي ستكون على أيديهم هنا! ازددت غوصًا في تلك البيئة، وحياةً في هذا الحلم الغريب.
,
, هامش:
, "الهيدرانجيا" نوع من الزهور معناها القلب المخلص وهو من الزهور الأكثر شعبية واشتهر باستخدامه في باقات حفلات الزواج.
, ٥ العلامة النجمية
,
, مُوراي
, بذراعيه مفتولي العضلات وبقميصه الحنطيّ اللون والمفتوح على صدره النحاسي المكشوف كان يراقب أمواج البحر بلونه الرائق في صمت مهيب، السماء اللامتناهية برونقها تهدئ من روعه، كان يتمنطق بحزام عريض ماروني اللون بينما يعبث في أنشوطته ليحكم ربطها على بنطاله الكتّانيّ الفضفاض بعد أن خرج من البحر للتوّ، لا بدّ أن يعود الآن قبل أن يرخي الليل عباءته على المكان. على جبهته عَقد شريطًا بنفس لون حزامه، لا يدري لماذا يصرّ على تلك العصابة بلونها الماروني القاتم، ربّما لأنها بلون ثياب أبيه التي كان يرتديها ذاك النهار الذي خطفوه فيه من حِضنه منذ سنوات. عينان واسعتان انزوى فيهما حزن شديد، بينما انعقد بين حاجبيه غضب جارف، ورغبة حارقة في الانتقام. عندما نُزع من حِضن أبيه كان غلامًا صغيرًا في العاشرة من عمره يوشك على البلوغ، يلعب معه أقرانه من أبناء النوبة، بعد أن نزحوا في مجموعات من قريتهم في جنوب مصر، إثر معاناة قريتهم من ظلم شديد من أحد الأمراء، ورحلوا ليستقرّوا على شاطئ البحر الأحمر، وبدأ آباؤهم يمتهنون الصيد، فنشأوا وقلوبهم معلّقة بماء البحر الرائق، وعيونهم تذوب عشقًا في زرقته البديعة، كان يركض هنا وهناك، نقي السريرة، مشرق العينين على شفتيه استقرّت ابتسامة رائعة، يرى الدنيا جميلة بألوان طيفها السبعة، حتى انتزعوه من غيمة السعادة تلك ليلقوا به في ظلمة تلو ظلمة مع رفاقه، لا يعرف منهم إلا رفيق دربه وصديق طفولته الذي كان يلازمه كظله وقد سُرق معه في ذات اليوم. تمرّد الصغير فور أن اشتدّ عوده عندما بلغ الثالثة عشرة من عمره وهرب من العصابة التي سرقته من أهله، وفرّ منهم وحيدًا بعد أن فشل في إقناع رفيق دربه الذي كان يستأنس به، استقر أخيرًا في قرية "الدحنون"* والتي اشتهرت بكثرة أزهار "خدّ العذراء" الحمراء في بساتينها، وفي الطرقات، وحول البيوت، حتى استحال كلّ انعكاس للضوء هناك أحمر مبهجًا زاهيًا وجميلًا.
, هامش:
, الدحنون : هي شقائق النعمان و هو اسم زهرة بريّة جميلة حمراء ارتبطت بالأدب العربي، قيل إنّها نبتت على قبر النعمان بن المنذر أشهر ملوك الحيرة، عندما داسته الفيلة لما رفض الخضوع لملك الفرس بتسليم نساء العرب له في معركة ذي قار، ولهذا نسبت إليه، في الأردن وفلسطين والشام والعراق يطلقون عليها الدحنون أو الدحنونة أو الحنونة.
, التقى هناك بالعجوز "مِسكة" التي كانت تعيش وحيدة في دارها على أطراف القرية، يعتزلها الناس رغم طيبتها ولا يزورونها إلّا قليلًا مما لفت نظره إليها، سألهم عن السبب فأخبروه أنهم يتشاءمون منها، فقد عثروا عليها في قارب مع مجموعة من النساء نازحين من أرض بعيدة، كنّ جميعًا في قارب واحد، وكانت الناجية الوحيدة من بينهن!، جلست المسكينة بين جثث رفيقاتها ولم تجرؤ على الإلقاء بهن في البحر، ولما لاحت لها قوارب الصيادين استغاثت بهم، تعجّب من نظرتهم القاسية لها فقد رقّ لحالها فأحسن إليها، التمست فيه ابنًا بارًا لها وكان خير الابن وخير الجليس. وعندما بلغ السابعة عشرة من عمره بدأ يعمل لينفق على نفسه وعليها، وكانت تحنو عليه كثيرًا واعتبرته حفيدًا لها. كان "مُوراي"* شابًا قويّ الشكيمة، صعب المراس، شديد الذّكاء يصعب السيطرة عليه، وكانت العجوز تعرف هذا عنه فكانت تتركه يخرج في رحلاته خارج القرية دون أن تسأله عن وجهته ولا متى سيعود، كان يعود في مرّات بغلام أو اثنين، وكثيرًا ما كان يعود بأكثر حتى صاروا يتكدسون في بيت العجوز "مِسكة " التي كانت ترق لهم، بعضهم استطاع "مُوراي" أن يعيده لأهله، وبعضهم لا، شاع في القرية أنّه لصّ ويسرقهم، وفي الحقيقة كان ينتزعهم ممن سرقوهم وينقلهم لبيت العجوز ليرعاهم حتى يبحث عن أهاليهم ويعيدهم إليهم، كان يبقيهم بعيدًا عن عالم السرقة والاستعباد والجوع والقهر حيث كانت تلك العصابات تستغلّهم وتربيهم على هذا، وأحيانا كانوا يبيعونهم بأبخس ثمن٢ نقطة هو يعرف هذا وقد ذاق ألوانًا من العذاب هناك، عاش "مُوراي" صلبًا، غلبت قوّة روحه قوّة جسده، وغلبت قوّة جسده قوّة حزنه، ثابت كالطود رغم ما ألمّ به من مصائب، غلب الحياة بما تميز به عن غيره، قُطعت وشائجه فوصلها بالعجوز وبالصغار ووصلهم ببعضهم البعض، كان يحاول صنع العائلة التي حُرم منها ليستأنس بهم.
, بدأ الجيران يشتكون "مُوراي" لكبار القرية، وتعرّض للكثير من التهديد، خرج ومعه "الحزاورة"*، هكذا كان يطلق عليهم، كانت كلمات أبيه تتردد في أذنه:
, -أتدري يا"مُوراي" أنت الآن مُميّز جدًا، لكنني أخشى عليك من الغدّ
, -لماذا يا أبي؟
, -لأنّك الآن من الحزاورة*
, -ماذا تعني؟
, -لقد اقتربت من البلوغ يا ولدي، ما زلت نقي السريرة، على فطرتك، لا تحمل غلًّا ولا حقدًا لأحد، نفسك التي بين جنبيك تشبه الحليب الأبيض الصافي الذي لم يتعكّر
, -وهل هذا حسن يا أبي؟
, -حتى الآن٣ نقطةنعم
, -فما يقلقك؟
, - شهواتك لم تستيقظ بعد، عندما تبلغ سيبدأ جهاد نفسك، ستصارعها يا "مُوراي"، فتمسّك بنقاء سريرتك ما استطعت يا ولدي، ودعني أزرع فيك ما ستفخر به غدًا، وسأدعم ما رزقك **** به من خصالٍ حميدة٢ نقطةفساعدني أرجوك، واقترب من **** لينزع عنك كل درن يعلق بنفسك، كن صديقي وسأكون صديقًا لك حتى آخر لحظات عمري، لو اجتزت تلك الفترة محتفظًا بنقاء نفسك ولم تتغيّر ستكون شابًا رائعًا، وغدًا ستحصد قمح رجولتك عندما يشتدّ عودك.
, كان الأب يوقّع كلماته بابتسامة، ثم يعانقه بحنان حتى ينصرف "مُوراي" من نفسه، لا ينزع ذراعيه عن عنقه أبدًا حتى ينزعها هو بنفسه٣ نقطةوأين ذاك الحِضن الآن!
, أحب الصغار "مُوراي" واتخذوه أخًا كبيرًا لهم، ذهبوا إلى البستان الذي اشتراه السيّد "بركات" تاجر الأقمشة الثري الذي ظهر في القرية فجأة وكان يبحث عن دار مناسبة تليق به وبابنته ليقيم فيها، كما كان يبحث عن خادم قويّ ومخلص، رحّب بـ "مُوراي" مستأنسًا بوجوده في بستانه الواسع وليقوم بحمايته وخدمة الخيول الثلاثة التي وجدها "بركات" في بستانه تحت شجرة بلوط عتيقة واكتشف أنّهم يتحدّثون بلغة البشر!، رفضوا الرحيل فاستبقاهم وأطعمهم، انتقل "مُوراي" للبستان وخرج من قرية "الدحنون" ومعه ما بقي من الحزاورة ورافقتهم العجوز "مِسكة " وانتقلوا جميعًا إلى البستان، حيث كانت "الجُمانة" تقف تحت الشجرة تحرّك عنقها يمينًا ويسارًا وتصدر صوتًا غريبًا والدموع تسيل من عينيها مما لفت نظر "مُوراي"! فاتجه إليها ودار بينهما حوار لم ينسه أبدًا.
, هامش:
, مُوراي: من الأسماء النوبية وتعني المصارع
, الحزاورة: جمع حَزْوَر وهو الغلام الذي قارب البلوغ، واللفظ ذكر في سنن ابن ماجة:
, "عن جندب بن عبد **** قال كنا مع النبي صلى **** عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا"
, اقترب منها بهدوء، وبدأ يمسح على رأسها بحنان، كانت تلك هي المرّة الأولى التي يقترب فيها من فرس، تبدو رائعة، كانت ملامحه تتراقص بين الفرحة برؤيتها، والانبهار بجمالها، والتعجّب من دموعها، والحماس لامتطائها والركض بين الحقول والبساتين وعلى شاطئ البحر بسرعةٍ شديدة، وضع يده على ظهرها فارتجف جذعها، لكنّها لم تتحرّك، نظر في عينيها ورأى انعكاس صورة وجهه، حملّق في مقلتها وأنصت لكرير صدرها، وقف للحظات مسحورًا بجمالها، ما زالت دموعها تسيل! قال متعجبًا:
, -يا مِسكينة، لماذا تبكين؟
, قالتْ "الجمانة" بخفوت:
, -أُخفف الحمل عن قلبي، فالدموع رحمة
, شهق "مُوراي"، استحال جلده جلد إوزة، ابتعد عنها وازدرد ريقه بصعوبة وقال:
, -أتتحدثين بلغة البشر!
, -نعم، ألم يخبرك صاحب البستان؟
, التفت تجاه "بركات" الذي كان يراقبه من بعيد، هزّ الكهل رأسه ففهم "مُوراي" ما يرمي إليه، قال بصوت مرتعش:
, -لا٢ نقطةلم يخبرني، ولكن كيف؟ هل أنت مسحورة؟
, -لا
, -هل أنتِ من الجنّ؟
, -أنتم معاشر البشر تفسرّون كلّ شيء لا تعرفونه دائمًا بأنّه بسبب الجنّ! لست منهم يا فتى، لست من الجنّ!
, -كيف إذًا تحدثينني بلغة البشر!
, -إرادة **** تُحقق المعجزات!
, ثُمّ اقتربت منه بينما كان "بركات" يشير إليه من بعيد ليستمر في حديثه معها وقالت:
, -لا تخف مني يا٣ نقطةما اسمك؟
, رمقها بذهولٍ للحظات ثُمّ قال:
, -"مُوراي"، وأنتِ؟
, قالت برجاء وكانت تبحث عمّن ينصت إليها ويخفف عنها من البشر:
, -"الجمانة"
, ثُمّ أردفت:
, - أرجوك لا تخف منّي يا "مُوراي"، كن حنونًا كصاحب البستان
, عاد "مواري" ينظر لوجه "بركات" الذي كان يبتسم ويطمئنه يإيماءات مختلفة، قال بعد تردد:
, -حسنًا، أخبريني الآن، لم البكاء يا عزيزتي؟
, -أخبرتُك عن سبب بكائي٢ نقطة أخفف الحمل عن قلبي، طال غياب الحبيب
, -وأين ذهب هذا الحبيب؟
, -رحل فجأة، لا أدري إلى أين، ولا أدري متى سيعود، وأخشى ألّا يعود
, وعادت للبكاء، قال وقد رقّ لحالها:
, -ظننتُ أنّ الخيول قويّة، فلم البكاء؟، أليست الدموع سلاح الضعفاء؟ وراية المستسلمين!
, قالت بخفوت:
, -ربّما أنا ضعيفة، ولكن ليست الدموع دائمًا هكذا، قد تكون أحيانًا منتهى القوّة!
, -كيف؟
, -دموع التائبين منتهى القوّة، لأنّها لله، فهؤلاء الذين قهروا شهواتهم ويبكون نادمين شوقًا لمرضاة ****، أما أنا فدموعي منتهى الضعف، فأنا أذوب حزنًا وشوقًا لمخلوقٍ ضعيف مثلي، فؤادي مذبوح يا "مُوراي".
, أضاءت عيناه وقال بنبرة يشوبها الحنين لوالديه:
, -يقولون إن أغلى دموع هي دموع الأب والأم، وأصدقها دموع المظلومين.
, -ودموع المحبين٢ نقطةأليست غالية؟ أعاني الوجد، والنجوى، والشوق، والشغف يا "مُوراي".
, حرّك كتفيه متعجبًا وقال:
, -وما كلّ هذا؟
, -كلّها من معاني الحبّ، أما تدري عن الحبّ يا فتى؟
, شرد "مُوراي" بعينيه وقال:
, -لم يزر قلبي إلّا حبّ أبي وأمي، لا أعرف ما الوجد الذي تتحدثين عنه!
, رفعت "الجمانة" رأسها وقالت:
, -الوجد هو الحب المشوب بالتعاسة والحزن من كثرة التفكير في المحبوب.
, -وما النجوى؟
, -النجوى أعظم من الوجد، فيها حرقة للفؤاد٣ نقطةويا لها من حرقة!
, لاحت ابتسامة ساخرة على شفتيه وقال:
, -أيّ حبّ هذا الذي يحرق الفؤاد!، لا حاجة لي به، أريد حبًا حلوًا وعذبًا أسافر فيه للمحبوب بقلبي وروحي كما يقولون فأسعد وأهيم بحبيبتي إن وجدتها يومًا ما.
, -ذاك الشوق يا "مُوراي"، يحملك على جناحه بقلبك وعقلك وروحك للمحبوب.
, -حقًا! ظننته الهُيام!، على العموم كلّه حبّ في حبّ٢ نقطةلا تعقّديها أيتها الفرس العجيبة.
, -الهيام؛ وما أدراك ما الهيام! الهُيام نوع من الجنون والذوبان في المحبوب، والهائم ضائع لا يرشده إلّا حبيبه٣ نقطةإنّه مجنون!
, قال ضاحكًا:
, -لا أريد أن أجنّ٢ نقطةسأختار نوعًا واحدًا٣ نقطةيكفيني الشوق، ما رأيك؟
, -ليته باختيارنا٣ نقطةنحن لا نختار، الحبّ يقع على قلوبنا كما يسقط المطر.
, -لكننا نملك أن نغلق الأبواب التي تورده للقلب! ونستظل من هذا المطر المفاجئ!
, -كيف؟
, -نحن البشر نختلف عنكم، أمرنا **** بغضّ البصر والاستعفاف، وتلك هي الحصون التي نتحصّن بها، فليس الذي يرى كمن لا يرى، وليس الذي يُمعن النظر ويتفحّص كمن يصرفه سريعًا،٣ نقطةأخبرني أبي بهذا.
, -وبماذا أخبرك أيضًا؟
, -أن الحبّ ليس مجرّد نظرة واشتهاء! بل هو أعظم.
, ربّت "مُوراي" على رأسها وقال:
, -أعانك **** يا عزيزتي.
, ثُمّ أردف قائلًا:
, -رفقًا بنفسك، يكفيك لونان من هذا الحبّ!
, -وماذا أفعل ولي قلب غرفاته واسعة، أنا أحبّ زوجي بكلّ ألوان الحبّ.
, هزّ كتفيه وقال لها:
, -لكنّ هذا يحزنك، ويؤلمك٢ نقطةودموعك الدليل!
, قالت بنبرة ممزقة حزينة:
, -نعم، يؤلمني٣ نقطة
, -أتعلمين؟ وأنا صغير كان أبي يخبرني أن للحزن أجنحة يطير بها، فكنت أغمض عينيّ وأتخيل الحزن يطير ويحلّق بعيدًا عنّي، أما وقد كبرت، الآن أحرر أحزاني وأنا أتأمّل على شاطئ البحر، اطلقي سراح أحزانك هناك، الأمر بيدك٣ نقطةمن هنا البداية
, وأشار إلى رأسه، فقالت بانكسار:
, -كيف؟٢ نقطةوأنا أشعر بالحزن وكأنّه جدار مصمت عنيد يحيطني من كلّ صوب.
, -وإن كان جدارًا ٣ نقطةفحطّميه، حطّمي هذا الجدار أو تسلّقيه إن شئت واقفزي وانجي بنفسك، واختاري لها أرضًا تليق بها.
, -وماذا لو لم يكن بيدي أن أختار يا "مواري"!
, -ستبقين حزينة يا "جمانة"، على العموم٢ نقطةربّما تحمل الأيام ما يجلّي عنك حزنك.
, -ربّما نعم، وربّما لا. أتدري؛ أحيانًا نظل عالقين بالوطن، نحبّه وإن غادرنا أو غادرناه، نرغب في وصاله وحسب، نحنُّ إليه، ومهما فصلت المسافات بيننا٣ نقطةنشتاقه!
, هزّ "مُوراي" رأسه بثقة وقال:
, -الشوق للأمان، وللسكينة، أنتِ تشتاقين لنفسك التي بين جنبيك وليس للأرض في حدّ ذاتها، تفتّشين عن لحظات الطمأنينة والسعادة والحبّ التي عشتِها في ذلك الوطن.
, -أصبت يا "مُوراي"، لكنني لا أعني الأرض، بل أعني وطني!
, -ماذا تقصدين؟
, -أشتاق إلى زوجي "حيزوم"، زوجي هو وطني يا "مُوراي"!
, ران عليهما صمت لطيف قال بعدها "مُوراي" بعد أن تنهّد بعمق:
, -وأنا أيضًا أشتاق لوطني، أشتاق لحِضن أبي.
, مرّت بهما نسمات الهواء البارد تصافح وجهيهما بدلال وكأنّ حديثهما عن الحبّ راق لها فاقتربت تتنصّت، كلاهما كان ساهمًا يسبَح في رحاب وطنه الغائب عنه، ذاك الوطن الذي يتنفّس، الحِضن الذي على ضيقه يتسع للمحبوب. قطعت "الجمانة" هذا الصمت بعذوبة عندما قالت:
, -هيّا بنا.
, -إلى أين؟
, -سأصحبك في رحلة، ألا تحبّ ركوب الخيل؟
, أشرق وجهه بابتسامة عذبة واسعة، واقترب ليركب "الجُمانة" التي صهلت بعذوبة ثُمّ انطلقت وهي تحمله وهملجت في البستان، اختارت "الجمانة" اليوم فارسها ومنحته شرف ركوبها، كان يشعر أنّه يحلّق في الهواء، خرجا منه واتجها نحو شاطئ البحر فرحبّت أمواجه بهما، ظلّت "الجمانة" تركض، وتركض، وتركض،٤ نقطةوتنثر الرمال هنا وهناك بينما فارسها ينثر ويبعثر ضحكاته في الهواء.
,
, ٤ العلامة النجمية
, "يُوسف"
, كان القيد يؤلمني بينما الموكب يسير أمامي وأحد الحرّاس يجرّني بالسلاسل خلفه، جوربي لم يحم قدميّ من الجراح التي أصابتني من الأشواك المتناثرة وأغصان الأشجار الجافة والأحجار الحادّة الحروف والحصى الصغير المدبب حتى استحال لون خيوطه أحمر من دمائي التي تسيل عليه، كنت أتأوّه وأتألّم كلّما خطوت خطوة وكانوا يلاحقونني بالأسواط، شعرت بالمهانة والذلّ. من بين أغصان الأشجار كانت هناك عينان تبرقان وسط الظلام، شعرت أنّ هناك من يراقبنا ويتبعنا، تارة تظهر العينان بين الأشجار القصيرة، وتارة أراهما فوق شجرة عالية، وتارة تختفيان حتى أنني انشغلت للحظات عن ألم جراحي بمتابعتهما. وصلنا أخيرًا وفُتّحت لنا أبواب القلعة، دلفوا يجرونني وألقوا بي في سرداب نتن الرائحة يمتدّ أسفل القلعة، كنت أعرف الطريق، وكيف لا أعرفه وقد وصفت التفاصيل بدقّة عندما كنت أكتب عن المسكينة "هيدرانجيا" عندما أسروها وألقوها في غياهب الظلمة هناك وعذّبوها. ألقوني على الأرض فتكورت في ركن أتألّم، غبت عن الوعي لفترة لا أعلم قدرها، ولم يوقظني إلّا دلو الماء البارد الذي غمر رأسي فجأة ففتحت عينيّ لأفاجأ بوجوههم القبيحة مرّة أخرى، عطست عطسة آلمني إثرها كل ضلع من أضلعي، يبدو أنني أصبت بالبرد، قال أحدهم بصوت قميء:
, -نمت طويلًا أيها البائس، هيّا٢ نقطة
, -إلى أين؟
, -الملك "كرشاب"* يطلب رؤيتك
, هامش: كرشاب اسم نوبي ومعناه الوجيه
, شعرت بارتباك شديد! "كرشاب"! ما الذي أتى به هنا!، هذه شخصيّة من رواية أخرى! وهو أمير نوبي ذكي ونابه، ما الذي أتى به إلى قلعة الدَّيجور!، صحت وهم يسحبونني وتتوالى ركلاتهم وضرباتهم على ظهري:
, -أين الملك "آسر"؟ والملكة "جلنار"؟
, قهقه الحراس وقال أحدهم:
, -منذ متى صار خادم الإسطبل ملكًا أيها الأحمق!
, قال آخر بتهكم:
, -و"جلنار" التي تغسل الملابس صارت ملكة! يا للعار!
, علت قهقهاتهم وازداد ارتباكي، يبدو أن هناك الكثير من المفاجآت تنتظرني هنا، لم يكن "آسر" خادمًا في روايتي، ولم تكن "جلنار" تغسل الملابس، ولم يكن "كِرشاب" هنا في قلعة الدَّيجور٢ علامة التعجب سألتهم بعد أن هدأت ضحكاتهم:
, -ما العلاقة التي تربط الأمير "كِرشاب" بالأميرة "جلاديولس"؟
, أجابني أحدهم بازدراء:
, -الأمير"كِرشاب" في استضافة الأميرة "جلاديولس"، وقد سمع عنك منها، ويودّ أن يراك الآن في الحال.
, تمتمتُ بخفوت وكنت أخشى من البوح باسمها:
, -وأين "الأميرة "هيدرانجيا"؟
, تلفتوا في تعجّب واستغراب وهزّوا أكتافهم، لم يعرفوها! لم يسمع عنها أحد منهم من قبل، بل وسألوني عن معنى اسمها الغريب كما وصفوه، ابتلعت حيرتي وسرت معهم بين أشجار حديقة القلعة الواسعة التي جفّت أغصانها وتساقطت أوراقها وصارت كخيالات المآتة المخيفة، وكيف لا وقد غاب عنها ضوء الشمس، انمحى الخضار وحلّ السواد محلّه، ما عادت تلك حديقة بل هي مقبرة!
, درنا حول البناء تحيطنا الظلمة من كل صوب، ما زالت قدماي تؤلماني بشدّة، أصبت بجروح جديدة وأنا أسير وبدأت الدماء تسيل من قدمي، فور أن دلفنا إلى قاعة كبيرة وفخمة في صدرها عرش عظيم تجلس عليه الأميرة "جلاديولس" بكبرياء وأضواء النيران المشتعلة والمعلّقة على الجدران تنعكس على وجهها الفاتن، صاح شاب قويّ البنية، طويل القامة، أدركت في الحال أنّه "كِرشاب"، له وجه جريء ذو فكّ عريض، كان يرفل في ثياب أنيقة تنمّ عن ذوق رفيع وقال مندهشًا:
, - انظري لقدميه، دماؤه حمراء لا تشبه دماءنا!
, قالت "جلاديولس" باهتمام:
, - هو بالفعل يختلف عنّا
, -وربّما هو من جنس آخر، أو أصيب بمرض ما تسبب في تغير لون دمائه فقط
, -ذاك المسخ الذي أخبرتك عنه من عشيرة المجاهيم قال لي إنّ هذا كاتب، من هؤلاء الكتّاب الذين سمعنا أخبارهم يتناقلها الناس في مملكة البلاغة، يقولون إن له دورًا فيما يحدث هنا، ما رأيك؟
, اقترب "كرشاب" مني وطالع وجهي بتمعّن وقال:
, -أشعر أنني أعرفه، وكأنني رأيته من قبل!
, قلت هامسًا وقد كان قريبًا مني وأنا أركز في عينيه القريبتين وقد بدونا بنفس الطول:
, -وأنا أعرفك، أعرف كل تفاصيل حياتك، كيف كنت تحبّ والدك، وكيف تألّمت عندما مات بين يديك وأنت صغير، وكيف تكره الوحدة والموت والليل، وكيف عانيت بعد زواج أمك عندما انتقلتم للقصر الجديد، وأعرف عن كرهك للسلطة وللقتل وللظلم.
, بُهت الأمير "كِرشاب" من كلماتي، ارتجفت شفتاه، تراجع للخلف خطوتين ورشقني بنظرة غريبة ثُمّ قال:
, - أعرّاف أنت؟
, -لا ٣ نقطةلكنني كتبتك٢ نقطةأنت شخصيّة من خيالي
, -ماذا!٣ نقطةأنت مجنون!
, ثم ضحك بسخرية و استدار وسار نحو عرش الأميرة "جلاديولس" وقال بتهكم:
, -يقولون إن الكتب حية وتستدعيكم للدفاع عنها
, ثُمّ التفت تجاهي وسألني:
, -أين كتابك الحيّ؟
, طالعتني "جلاديولس" بنظرة سريعة وقالت:
, -ربّما هو محارب وقد فقد كتابه، فلننتظر ونراقب.
, قال "كِرشاب":
, -لكن الكتاب لم يستدعه٤ نقطةبل أنتِ و"المجاهيم"، أنتم تعبثون٢ نقطةوربّما تتسببون في المزيد من المشاكل
, ظهر الضيق على "جلاديولس" فزمجرت ثُمّ أشارت للحراس فجرّني اثنان نحو زنزانتي مرّة أخرى، في طريق عودتنا كنت أشعر بنفس العينين تلاحقاني وسط الظلمة من فوق سور القلعة الذي كنّا نسير بمحاذاته، فور أن اقتربنا من سور القلعة سقط حجر على رأس أحدهما وقفز شاب برشاقة من فوق السور على ظهر الحارس الآخر ثُمّ صارعه قليلًا وطرحه أرضًا وظلّ يلكمه حتى أفقده وعيه بجوار الأوّل وعاد ليحاول فكّ قيودي، أفلح في فك قيد قدميّ وبقي قيد يديّ فركضنا معّا نحو السور، لم أكن أرى شيئًا سوى بياض عينيه، كان هناك فرس يقف بهدوء وكأنّه صنم من حجر، أخبرني الشاب أن أصعد فوقه وساعدني ثُمّ صعد بجواري ورفعني لأقفز من فوق السور، وما أصعب أن تقفز من فوق سورٍ وأنت مقيّد اليدين٢ نقطةسمعته يتحدث لأحدهم قائلًا:
, -عُد الآن إلى الإسطبل وأعدُك أن أعود لأحررك
, تناهى إلى سمعي صوت حمحمة الفرس ثُمّ صوت خطواته تبتعد، قفز الشاب وركض فركضّتُ خلفه وأنا لا أعرفه، أدركت حينها أنّه من كان يتبعنا ويراقبنا من بين الأشجار عندما جرّني الحراس إلى القلعة، أصابتني نوبة من السعال فالتفتَ ينبهني أن أكتمه، عندما ابتعدنا عن القلعة بدأ بصيص من الضوء يطلّ من بعيد، كانت عيناي متعبتين من السواد والظلام الحالك الذي عايشته طوال وقت احتجازي في سجن قلعة الدَّيجور، شيئًا فشيئًا بدأت أرى كلّ شيء بوضوح، كان شابًا فارعًا ، قويّ البنية لا ريب أنّه نوبيّ أصيل، التفت نحوي فلاحظتُ العصابة المارونية اللون التي يربطها على جبينه، أخبرني أننا اقتربنا، سألته بصعوبة من بين أنفاسي المتلاحقة:
, -ما اسمك؟
, -"مُوراي"
, خفق قلبي وصحتُ:
, -يا إلهي! أنت من٣ نقطةمن الحزاورة!
, ألقى عليّ نظرة ثُمّ استردها وقال بمرارة:
, -لم أعد منهم٣ نقطة
, رحتُ أتأمّله، يا له من شاب! جبين متغضّن متألّم، ونظرة راقية يوشيها حُزن غامض، قلتُ له:
, -أنا أعرفك، كم عمرك الآن يا "مُوراي"؟
, -أنا في السابعة عشرة من عمري٣ نقطةلم تسألني!
, قلت مترددًا وقد خشيت ألّا يُصدّقني:
, -كتبت عنك يا صديقي، لكنني لم أتوقع أن أراك وقد مرّ على اختطافك من أبيك سبع سنوات! هناك شيء غريب يحدث هنا!
, رسم على وجهه علامة الخبير وقال:
, -إذًا ما يتردد في القرى صحيح، وأنت كاتبٌ بالفعل، سمعت الأميرة "جلاديولس" تخبر الأمير "كِرشاب" عنك.
, -أكنت هناك؟
, -نعم، أستطيع دخول القلعة والخروج منها من آن لآخر، في الحقيقة وجود حرّاس من النوبة برفقة الأمير "كِرشاب" ساعدني على الدخول والخروج، فأنت تعلم أنّ كل سكان قلعة الدَّيجور ليسوا من أهل النوبة، كما أنّ "أبهر" يساعدني
, تسارعت دقّات قلبي وقلت مذهولًا:
, -"أبهر"! لا٣ نقطةلا تخبرني أنّه حصان يتكلّم بلغة البشر٢ نقطة
, -وكيف عرفت؟
, -إنّه من خيول "الكحيلان" يا "مُوراي"
, -لكنّهم لا يسمون أنفسهم بهذا الاسم، يقولون أنّهم خيول "أوبالس"! هكذا أخبرتني الخيول الأخرى التي التقيت بها بالبستان الذي أعيش فيه
, -"أوبالس"! لماذا هذا بالذّات؟٤ نقطةغير معقول!
, -وما الغير معقول!
, -تلك الخيول عربية أصيلة، ألم تلحظ أسماءهم يا فتى، ألا تعرف معاني تلك الأسماء؟، سأخبرك بقصّتهم بالتفصيل
, استوقفني بيده قائلًا بجديّة:
, -انتظر حتى نصل إلى البستان الذي نعيش فيه، قبل أن ينتبه حراس قلعة الدَّيجور لغيابك
, -حسنًا فلنكمل طريقنا٣ نقطةأسرع وسأتبعك
, وركضنا معًا حتى غمرنا النور وابتعدنا عن تلك الظلمة الكثيفة التي تغطي قلعة الدَّيجور وما حولها، التفتُّ أراقب السّحب السوداء من بعيد، شعرت ببرد شديد فجأة!، وكأننا انتقلنا لفصل آخر من فصول السنة، أكملت سيري وأنا أرتجف وداهمتني نوبة السعال مرّة أخرى وكان صدري يؤلمني، بدأ أنفي يرشح، وآلمني حلقي، وشعرت بإعياء شديد. شردت قليلًا ثُمّ عدت أتأمّل "مُوراي" وهو يسير بجواري، شاب رائع مفعم بالآمال والأحلام، شعرت بعطفةٍ شديدة تجاهه، أعرفه، أعرف هذا الصغير٣ نقطةبل٢ نقطةالشاب! كيف صار شابًا؟ لا أدري!
, كُنت أعرف كيف قهره اللصوص وكيف نزعوه من حِضن أبيه وأوسعوه ضربًا حتى فقد وعيه وحملوه، دمعت عيناي وأنا أكتب عنه، كان يذكر رائحة أبيه ولون ملابسه، حتى رائحة الحبال المالحة على الشاطئ لم ينسها، فقد كان أبوه صيادًا ماهرًا، لم أكتب نهاية لرواية "الحزاورة"، ولا رواية "خيول الكحيلان"، ولا رواية "القلب المخلص" التي كتبتها عن الأمير "كِرشاب" ولا رواية "قلعة الدَّيجور"، وما يذهلني أن الشخوص تتقاطع هنا،كما أن بلوغ "مُوراي" وكونه الآن في السابعة عشر من عمره أربكني!
, توالت الأسئلة على رأسي٤ نقطة
, هل أنا أعيش في عالم رواياتي المبتورة النهايات؟
, أم هذا عالم آخر موازٍ يشبه ما ألّفته من أحداث وما ابتكرته من شخوص؟
, لماذا "آسر" ليس ملكًا بقلعة الدَّيجور؟
, وكيف تغسل جلالة الملكة "جلنار" الملابس؟
, لماذا خيول "الكحيلان" غيّرت اسمها من اسم عربي أصيل إلى خيول "أوبالس"؟
, بل وما الذي أتي بـ "أبهر" لقلعة الدَّيجور أصلا! وأين باقي الخيول؟
, وأين اختفت الأميرة "هيدرانجيا"؟
, وكيف أصبح "مُوراي" شابًا يافعًا والرواية في أصلها عن غلمان صغار على وشك البلوغ سُرقوا من أهاليهم وشردوا في البلاد ومنهم "مُوراي"!
, سرت أتخبط في حيرتي وما زال القيد يحيط بمعصميّ، وصلنا أخيرًا لبستان كثيف الأشجار، ذاك البستان الذي كانت الخيول تستوطنه في روايتي مع فارسها الذي فقد قبيلته كلها في حرب مع قبيلة مجاورة وبقي وحيدًا مع عشرة من الخيول الأصيلة التي كانت لأهله وعشيرته، سار في الصحراء وحيدًا، يائسًا، حزينًا، كان يحدّث نفسه ثُمّ بدأ يحاور الخيول ويتحدّث معها، يحكي عن مجد آبائه وأجداده، ويبكيهم حزنًا وقهرًا، وكانت تنصت إليه، وفوجئ أنّها تفهمه وتردّ عليه بلغة البشر٣ نقطةولكن! أين هذا الفارس الآن؟
, فور أن دخلنا إلى البستان شعرت بسكينة، همست لـ "مُوراي" قائلًا:
, -لماذا ساعدْتني؟
, توقف والتفت إليّ وطالعني بنظرة عميقة تركت أثرًا في نفسي وقال:
, -أنت تعرف مكان أبي٢ نقطةأليس كذلك؟ ألست كاتبًا أو محاربًا؟ يقولون إنّكم تعرفون عنّا الكثير٢ نقطة
, أجبته بلا تفكير:
, - سنجده معًا يا "مُوراي" إن شاء الله٢ نقطةلا تقلق
, غمرت وجهه ابتسامة واسعة فأماطت اللثام عن أسنانه النّاصعة البياض، وضع سبابته على فمه مشيرًا إليّ حتى لا أحدث صوتًا، ثُمّ هرول تجاه بناء بسيط من الطين مسقوف بجريد النّخل ومدعّم بجذوع الأشجار له باب خشبيّ أنيق مصنوع بإتقان، سحب جرابًا مصنوعًا من جلد الماعز برزت منه أدوات حديدية كان معلّقًا على جدار البيت وسار مبتعدًا فتبعته إلى الجهة الأخرى من البستان حيث رأيت كوخين بجوار شجرة بلوط عتيقة ربط بجوارها ثلاثة من الخيول فور أن رأيتهم عرفتهم، إنّهم أيضًا من خيول الكحيلان، "الجُمانة"، و"البيضاء"، و"الشقراء"، ألوانهن وتلك العلامات التي على أجسادهن لا تخفى عليّ أبدًا٢ نقطةأردت الحديث عنهن مع"مُوراي" لكنّه كان مشغولًا بتحضير أدواته ليكسر قيدي، أجلسني وطلب مني أن أضع يديّ على جذع شجرة مقطوعة، وضعتهما أمامه وبدأ يبرد حلقة القيود الحديدية بالمبرد، جلست أراقب عينيه، ذاك الغضب القابع بينهما يؤلمني، وهذا الحزن الذي ينزوي هناك يوجعني، ليتني ما كتبت عنه ما كتبته، القوّة التي بدت على محيّاه وجسده طمأنتني قليلًا، لقد عركته الحياة فصار رجلًا، حلّ قيدي بمهارة فوقفت أتحسس معصميّ وكنت متعبًا للغاية، بدأ يحدثني وكنت أشعر بحرارة تجتاح جسدي، يبدو أنني أصبت بالحمّى، سقطتُ بين يديه بينما كان ينادي على أحدهم، شعرت بدوار شديد، كنت ممددًا على أرض البستان بينما هناك بعض العيون تحملق في وجهي وقد أحاطوا بي من كلّ جهة، يبدو أنّهم "الحزاورة" ومعهم عجوز لطيفة، تقف متدثرة بشال من الصوف مشمشي اللون، كانت كفّها الحانية آخر ما شعرت به على جبيني قبل أن أفقد الوعي تمامًا، من هي تلك العجوز٢ علامة التعجب
, ٥ العلامة النجمية
, بركات٢ علامة اقتباس
, صمت رهيب يلف المكان، وكأن الإنسانية قاطبة قد تبخّرت، ذاب جليد صبرها وبدأت شجاعتها تنكمش، كانت "الترياق" ساكنة تقف بخشوع وتهزّ ذيلها ولا تصدر صوتًا حتى أن الشك قد راود "حبيبة" أنّها كانت تتخيّل أنّها تحدثت إليها منذ قليل، كادت تسألها عن سبب صمتها لولا طيفه الذي لاح من بعيد. مدّت يدها لحقيبتها وتحسست خنجرها وقبضت عليه بشدّة، كانت متحفّزة لذاك الذي يقترب من بعيد،كان كهلًا* يحثّ الخطى مسرعًا، ومستندًا إلى عصاه العجراء بيده اليمنى، بينما يمسّد لحيته بيده الأخرى. سحنة طيبة مريحة طمأنتها قليلًا لكنّها ظلّت تقبض على خنجرها ويدها مدسوسة داخل الحقيبة، حيّاها بلطف وهو يقترب، تحتلّ وجهه ابتسامة مشرقة، استند الكهل إلى عصاه ووقف يلتقط أنفاسه، بدا وكأنه سار لمسافة طويلة، كان نحيلًا وطويلًا، وكان مهيبًا في ثوبه الحنطي اللون والفضفاض، له عينان تكشفان عن نفس قوية، بدأ يرحّب بـ"حبيبة" التي اقتربت منه بحذر وأخبرته أنّها ضلّت الطريق، وتريد الخروج من تلك الغابة، كانت حريصة ألا تخبره عن كتابها، سألته إن كان قد لاحظ سقوط صقر أصابه البرق في جناحة فسقط وسط الأشجار، ابتسم الكهل ابتسامة تشي بأنّه فطن إلى شيء ما وقال وهو يشير للسحب في السماء متجاهلًا سؤالها عن الصقر:
, -ستُمطر مرّة أخرى، لا بدّ أن نسرع يا ابنتي
, هامش:
, الكَهْلُ: هو مَنْ جاوز الشبابَ ولمّا يصل سنَّ الشيخوخة بعد، وهو الذي خطه الشيبُ
,
, وأشار إلى درب طويل تتفرّع منه ممرات عديدة محفوفة بأشجار السنديان يمينًا ويسارًا ففهمت أنّه يدعوها للسير معه، لاحظ أنّها بلا حذاء فأشفق عليها، وطلب منها أن تركب "الترياق"، وأسرع في خطاه فتبعته بعد أن ركبتها، سارا معًا بين الأشجار، سألته "حبيبة" باهتمام:
, -إلى أين؟
, كان الكهل يسير بين الأشجار وبدا أنّه يحفظ الطريق بينها، قال دون أن يلتفت إليها:
, -سنحضر ابنتي "رفيف" ثُمّ نذهب إلى بيتنا
, كان يتلفّت بين فينةٍ وأخرى ويتأمّلها، قال بصوتٍ دافئ:
, -انتبهي يا ابنتي، المملكة هنا كما الحياة، بحر متقلّب، ستلتقين هنا بغرباء سيكتسبون قوتهم من ضعفك إن ضعفتِ، وسيتعملقون متى تقزّمتِ، فكوني دائمًا قويّة أيتها المحاربة.
, أجفلت "حبيبة" عندما سمعته يدعوها بالمحاربة وسألته بفضول:
, -وكيف عرفت أنني محاربة؟
, أجابها بابتسامة خفيفة قائلًا:
, - الكلّ هنا يعرف طريقه، ولا تبدو الحيرة إلا على وجوه المحاربين.
, ثُمّ صمت هنيهة وقال:
, -لم تخبريني عن اسمك
, قالت بابتسامة لطيفة:
, -"حبيبة"
, ثُمّ ربتت على رأس الفرس وقالت:
, -وهذه "الترياق" من خيول٣ نقطة
, قاطعها قائلًا وعلامات القلق تتمشّى في ملامحه:
, -أعرف تلك الخيول٣ نقطةأعرفها جيّدًا يا ابنتي٣ نقطة
, ثُمّ هزّ رأسه واغتصب ابتسامة وقال:
, -وأنا "بركات" والآن أسرعي٣ نقطةفقد تأخّرنا على "رفيف".
, كان كلامه موجزًا دون كلمات مطنبة أو مسهبة، من بعيد كانت "رفيف" تقف على شاطئ البحر تحملق في زُرقته الرائعة، أمواج البحر تتوالى على قدميها تلثمها برفق وتنسحب بنعومة نحو البحر، يا لها من فتاة رقيقة! كانت الفتاة بيضاء وكأنّها اغتسلت في نهر من حليب للتو! بياض وجهها غريب! بدت وكأنّها مسحورة تراقب الأفق بشرود وعلى عينيها استقرت نظرة سكون عميقة، ضربت الرياح بطرف ردائها الفضفاض فبدت دقّة ساقيها، اخترقت أصواتهما **** الصمت الذي كانت تلوذ به فانتفضت ثُمّ استدارت وهي تعدّل وشاحها الخزامي اللون وابتسمت بلطف لـ "حبيبة" التي ترجلت عن الفرس لتسلّم عليها، فأقبلت الفتاة" تحتضنها وكأنّها تعرفها وتألفها منذ زمن، في تلك اللحظة أرخت "حبيبة" يدها وتركت الخنجر في الحقيبة، الآن بدأت تطمئن٣ نقطة سارت بجوارهما وهي تمتطي "الترياق" نحو بيتهما، تذكّرت صيحة "قطرة الدمع" قبل أن تلقي بها في البحر، وكيف كان صوتها يحمل الكثير من الفزع فالتفتت تجاه الكهل، وسألته:
, -هل من الممكن أن أسألك سؤالًا قد يبدو غريبًا؟
, -تفضّلي
, -هل التقيت بأحدٍ من أهل النوبة في طريقك إلى هنا؟
, -بالتأكيد، ستلتقين ببعضهم قريبًا حيث أسكن مع ابنتي ومعهم
, -من أين أنت؟
, زمّ عينيه وقال:
, -من بلاد بعيدة، وأتيت للتجارة، وسأعود لوطني يومًا ما
, شردت "حبيبة" قليلًا وأخذت تفكّر في صياح "قطرة الدمع" وما حدث لها، بدأ حماسها يشتعل لإتمام مهمتها الغامضة وآنست برفقتهم، "بركات"، وابنته "رفيف"، وتلك الفرس الرائعة٣ نقطة"الترياق"، قررت أن تبحث عن قطرة الدمع في وقت لاحق بعد أن يهدأ المطر، لا بدّ أن تلتقي بـ"المغاتير" أو بحرّاس المكتبة٣ نقطة لتستنير بإرشاداتهم قبل أن تبدأ رحلتها.
, وصلوا أخيرًا إلى بستان فردوسي رائع كثيف الأشجار، أسبلت عليه الطبيعة ثيابًا سندسية موشّاة بجلالها القدسي، فأوت إليه البلابل والعصافير وانطلقت تشدو وتغرّد مترنمة بجمال الكون البديع، هرولت "الترياق" نحو ثلاثة من الخيول كانوا تحت شجرة هناك، بدا وكأنّها تعرفهم، أصدروا ضجيجًا عندما رأوها تقترب وصهل فرس منهم بعذوبة، كان هناك بعض الغلمان يحيطون بشاب قمحي البشرة له شعر ناعم وكثيف وطويل إلى حدّ ما، كان ممددًا على أرض البستان بدا وكأنّه فاقد لوعيه، كانوا يغسلون رأسه بالماء ويحاولون إفاقته، تأمّلت ملابسه التي تشي ببساطة حاله وفقره، يبدو مسكينًا بمعطفه المهترئ هذا وجوربه الأرجوانيّ المثقوب، استوقفها أن ملابسه تختلف عن ملابس كل من بالبستان، إنّه معطف يشبه تلك الملابس التي اعتادت عليها "حبيبة" في عالمها، لاحظت بنطال منامته الصوفية أيضًا! أدركت الآن أنّها تقف أمام محارب آخر مثلها٣ نقطةالآن التقت به، هنا على أرض مملكة البلاغة، تماما كما التقت "مرام" بـ "أنس"، جلست تراقب الجميع في حيرة، يبدو أنّهم جميعًا من النوبيين، ما عدا "بركات" وابنته، وهذا الشّاب الغريب، أعارتها "رفيف" حذاء من أحذيتها، فارتدته في الحال وجلست تفكّر، ترى ما الذي تخبئه لها تلك المملكة العجيبة!